الوطن والوطن البديل
كان اليونانيون الأقدمون أسبق فى الظهور الإنسانى –من الناحية التاريخية- على مسرح الأحداث البشرية عن الشعب الرومانى القديم “اللاتينى”. وقد استطاع الشعبان اليونانى والرومانى القديمان تكوين حضارة إنسانية عظيمة ذات أثر وشأن فى التاريخ الإنسانى أجمعه. وقد شكلت تلك الحضارتان القديمتان معًا حضارة أوربية إنسانية عُرِفتْ باسم الحضارة الكلاسيكية، وهى أُم الحضارة الأوربية الحديثة.
ومن ثم فالباحث فى شئون أوروبا الحديثة عليه أن يرجع إلى أصولها القديمة؛ حتى يقف على حقيقة وأصول الشعوب الأوربية، وكيف بدأت وتطورت وتقدمت، وهذا عينه ما فعله الدكتور طه حسين، عندما كان يدرس اللغة الفرنسية، فصادفته ضرورة تعلم اللغة اللاتينية؛ بوصفها اللغة الأم للغة الفرنسية، كما أنها أم لبعض اللغات الأوربية الحديثة أيضًا.
وقد تراءى له حتى ينجز هذا الأمر، ضرورة معرفة وتعلم اللغة اليونانية القديمة، شريكة اللغة اللاتينية في تدوين وتسجيل المعارف والعلوم الأوربية القديمة.
فمعرفة تلك اللغتين القديمتين، اليونانية واللاتينية، تمنح صاحبها فرصة الوقوف على حقيقة تاريخ الشعوب الأوربية الحديثة، ومن ثم معرفة أسباب ودوافع خروج الأوربيين المحدثين خارج حدودهم الجغرافية واستعمار أراضى الغير واستعباد الشعوب الآمنة داخل حدود أوطانهم فى القرن السادس عشر والخامس عشر.
الشعب اليوناني والوطن الجديد
ومن خلال مطالعة تاريخ الشعب اليونانى القديم نجده وقد منح نفسه حق استعمار أرض الغير، أو على أقل تقدير مشاركته خيرات أرضه. ولقد لجأ إلى هذا الاستعمار والخروج والتوسع خارج حدوده الجغرافية عندما ازداد عدد سكان المدن لديه، فضاقت به وعلى بنى جلدته سبل العيش داخل أراضيهم، ومن ثم أخذوا في البحث عن أراض أخرى ليسكنوها.
وعندما كانت تصادفهم أراضى غنية وفيرة النماء والمحاصيل، ويرتضون بالعيش بين سكانها، فقد كانوا يرون فى هذه الأرض الجديدة وذلك الشعب المضياف وطنًا جديدًا لهم، وعندما يشعرون بالراحة فيه، كانوا يرون فيه وطنًا بديلًا لوطنهم الأصلى.
وحتى يستقر هذا الشعور بداخلهم فقد اعتادوا على جعل هذا الوطن البديل صورة طبق الأصل لوطنهم الأصلى؛ إذ كانوا يهتمون بإنشاء مجالسهم التشريعية ومبانيهم الترفيهية ومسارحهم ومعابدهم إلخ، على نفس الطرز المعمارية التى اعتادوها فى طنهم الأصلى.
ومن أجل التمييز بين هذا الوطن الجديد ووطنهم الأم، نجدهم قد ابتكروا كلمة جديدة أضافوها إلى كلماتهم التي يستخدمونها؛ للتعبير عن احتياجاتهم وشعورهم بالأمن والاستقرار فى أرض جديدة وبين أفراد لا ينتمون إلى أبناء جلدتهم اليونانيين.
وكانت كلمة بيت أو وطن فى قاموس اللغة اليونانية القديمة تعنى “أويكيا oikia”، بينما كانت إضافتهم الجديدة لقاموسهم اللغوى يتمثل في كلمة “أبويكيا apoikia” والتى تعنى بيتًا أو طنًا بعيدًا عن البيت أو الوطن الأصلى، أو بمعنى “بيت أو طن بديل”.
الرومان والإيمان بالسلاح
وفى شأن الرومان أيضًا، نجدهم وقد بدأوا تاريخهم بالاستيلاء على أرض الغير واستعمارها، وعندما ظهرت مدينة روما، كانت مدينة قوية فتية، يؤمن أهلها بالسلاح، سواء السلاح القاتل فى الحروب، أو السلاح الذى يشق الأراضى ويجعلها صالحة للزراعة وإخراج المحاصيل.
وقد استطاع الرومان فى وقت وجيز ضم الكثير من الأراضى والأوطان لممتلكاتهم، والانتشار فى تلك البقاع الجديدة. وتمييزًا لتلك البقاع الجديدة عن الأرض الأم روما، وجدنا الرومان وقد ابتكروا فى العصر الجمهورى كلمة مُستعمرة “كولونيا colonia”، والتى اشتقوها من كلمة “كوليرى colere”، والتى تعنى يزرع أو يُفلَح.
وكما يبدو من هذا الاشتقاق والابتكار وجود رغبة محمومة فى الارتباط بالأرض وإنتاج المحاصيل، وفى إعادة تهيئة الأرض وتوزيعها أكثر منها استعمار أو استيلاء، ومن ثم وجدناهم يضيفون كلمة جديدة لقاموسهم اللغوى وهى كلمة كولونوس “colonus” والتى تعنى مُزارعًا أو فلاحًا.
وفى هذه الأوطان البديلة، كان ينشأ مواطنون، يونانيون أو رومان، ولاؤهم الأول والأخير لتلك الأرض وهذا الشعب، يدافعون عنها ويحمون مُقدراته، بصفته وطنهم الأصلى، وذلك بعد وفاة المستعمرين الأوائل الذين كانوا يعون الفرق بين الوطن الأصلى والوطن البديل.
اقرأ أيضاً:
دور حضارات الشرق القديمة في بناء الفكر الأخلاقي عند اليوناني
الفضيلة ومفتاح السعادة الإنسانية
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.