أمّا عن موقف طه عبد الرحمن من المقاربة السياسية فلا يختلف عن أرندت في تمييزها بين العنف والقوّة، منتقدا نظرية عالم الاجتماع الألماني “ماكس فيبر” في قوله بالعنف المشروع، أي الذّي تستأثر به الدّولة حفظا لكيانها ونظامها العام.
فمعلوم عن فيبر اهتمامه بإدارة الاجتماع السّياسي، أي الدّولة، فعن سؤاله ماذا نعني بالدّولة؟ رفض فيبر إمكانية تعريفها انطلاقا من مضامينها (وظائفها) التي تقوم بها، ذلك أنّ الوظيفة وعلى التعيين متغير غير قار، فما يعدّ مهما لدى الدّولة اليوم قد يكون غير ذلك غدا، أو ما يعد وظيفة من أهم وظائفها في مكان ما قد يكون غير ذلك لدى دولة أخرى،
لذا عرّفها انطلاقا من وسائلها وأدواتها النّوعية لا مضامينها، وهي “العنف الطبيعي أو الفيزيائي”، بمعنى آخر “إنّ كلّ دولة تقوم على العنف“، هي علاقة شرط بمشروطه، يقول: “فإذا لم تكن تشهد إلاّ قيام بناءات اجتماعية لم تكن تعرف العنف وسيلة فيها، فإنّ مفهوم الدّولة يسقط عنها” 6.
بطبيعة الأمر لن يتمكن فيبر من إقناع قرائه إذا ما ترك موقفه هذا مطلقا، لذا أخذ يميّز بين العنف المشروع الذي تستأثر به الدّولة لذاتها في مقابل العنف غير المشروع وهو الذي لا يحظى بتأييد الدّولة ولا الدساتير ولا المجتمع الدّولي، لذا “تتركز الدّولة كذلك على سيطرة الإنسان على الإنسان القائمة على العنف الشرعي” 7.
نقض نظرية “ماكس فيبر”
نقْضُ طه تلك النّظرية كان من وجوه ثلاثة، بموجبها يتميز العنف عن القوّة، أولى الوجوه أنّ الدّولة تستأثر بالقوة لا العنف، وعليه لا وجود لما يعدُّ عنفا مشروعا، فـ لفظ “العنف” يحمل معنى مقدوحا فيه قدحا أخلاقيا، حتى ولو أضيف إليه وصف “المشروعية”، بينما لفظ “القوة” لا يحمل هذا المعنى، بل قد يحمل لفظا إيجابيا ومحمودا.
والوجه الثاني نسبة العنف للدّولة فيه تشريع للعنف، فاستعمال الدّولة للعنف بدعوى إقامة العدل وضبط الأمن وحفظ النظام يُوقع في انتهاك حقوق المواطن.
أمّا الوجه الثالث فإنّ كلمة العنف (Gewaltsamkeit) عند فيبر يكتنفها لبس قد يكون ذريعة لغايتين متعارضتين، غاية “فوضوية” ترى أنّ ممارسة القوة لدى الدّولة فيه عنف صريح على المواطنين، الذي يخدم غرض “الفوضويين”. وإمّا لغاية “تسلّطية” ترى في قوة الدّولة ممارسة لسلطتها القانونية، الذي يخدم غرض “السلطويين”.
لذلك اعتبر طه استعمال لفظ “العنف” في حقّ الدّولة ضرره أكبر من نفعه، فمعيار سلطة الدّولة وقوتها “إقامة العدل” عدا ذلك يعدُّ عنفا، بل العنف مقابل القوّة، وعنف الدّولة مظهر من مظاهر ضعفها لا قوتها 8.
ضرورة وجود وازع
موقف مثل هذا تقليد قال به ابن خلدون الذي جعل أحد أهداف الاجتماع البشري دفع المظالم إحقاقا للعدل وتعميرا للكون، نافيا أن يكون ذلك بآلة السلاح، أي بوسائل العنف وأدواته، بل الأمر يلزمه وازع وسلطان، بمعنى قوة المُلك، بحيث لا تكون القوّة إلاّ في يد من له الغلبة والسّلطان على الرّعية يقول:
“الاجتماع ضروري للنّوع الإنساني وإلاّ لم يكمل وجودهم وما أراده اللّه من اعتمار العالم بهم واستخلافه إيّاهم، ثم إنّ هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه وتم عمران العالم بهم، فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم، وليست آلة السّلاح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية […] فلا بد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض ولا يكون من غيرهم.. فيكون ذلك الوازع واحدا منهم، يكون له عليهم الغلبة والسّلطان واليد القاهرة حتى لا يصل أحد على غيره بعدوان وهذا هو معنى المُلك”9 .
بين العنف والقوّة
هذا ويسجل طه مجالا آخر غير مجال الدّولة الذي تظهر فيه الفروقات بين العنف والقوّة بشكل أكبر وهو مجال الأفراد والجماعات، بل يعدّ الأصل الذي بنى عليه طه نقده لما يُسمى بــالعنف المشروع، وعليه فإنّ القوّة طاقة تحفظ بنية الذّات جامعة لعناصرها محقِّقة لماهيتها، بينما العنف اندفاع لا يحفظ بنيتها بقدر ما يفسدها، ولا يجمع عناصرها بقدر ما يفرّقها، ولا يحقق ذاتها بقدر ما يدسّيها.
علاوة على ذلك تعدُّ القوة طاقة منضبطة لتوافقها والقوانين، فهي طاقة عاقلة تصدر عن عنصر سامٍ في الإنسان وهي الرّوح، لذا تعدُّ القوة طاقة روحية. في حين أنّ العنف اندفاع جاهل يصدر عن عنصر متدني في الإنسان وهي النّفس، لذلك عدَّ العنف اندفاع نفسي 10.
المصادر:
6 ماكس فيبر. العلم والسياسة بوصفهما حرفة، ص 262.
7 المرجع نفسه، ص 264.
8 طه عبد الرحمن. سؤال العنف بين الائتمانية والحوارية، ص 37- 39.
9 عبد الرحمن بن خلدون. المقدمة، تحقيق أحمد جاد، دار الغد الجديد: القاهرة، ط1، 2007، ص 54.
10 طه عبد الرحمن، المصدر السابق، ص ص 40-41.
اقرأ أيضاً:
نظريات علم الاجتماع على ميزان العقل
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.