مقالات

الملّاح تشنغ خه

يمثل التجاذب العالمي والصداقة والتقارب سِمَة أساسية للتعامل والاحترام المتبادل في كل عصر ومصر وزمان ومكان، وعلى الرغم أنّ الصين عاشت بعض الفترات في شبه عُزلة عن العالم الخارجي إلا أنها وفي حقب كثيرة من تاريخها اهتمت بالاكتشاف والاستكشاف والتدوين وتكوين الصداقات وتبادل المنفعة والمشاركات المتمثلة في العلاقات الدبلوماسية والتجارية والاقتصادية.

وما طريق الحرير البرّي والبحري منا ببعيد، الذي يعود إلى أكثر من ألفي عام، فقد أرسلت الصين قوافلها وأساطيلها شرقًا وغربًا تُصدّر منتجاتها وتستجلب احتياجاتها ولوازمها، فهذا الطريق يربط الصين والدول العربية في أسرة هان، وازدهر في أسرة تانغ وأسرة سونغ، ثم في أسرة مينغ وتشينغ، ويعتبر إبحار (تشنغ خه) إلى المحيط الهندي من أهم القضايا التي تمثل الصداقة الودية والتاريخ الطويل في العلاقة الصينية العربية.

رحلات البحّار تشنغ خه

برز البحّار الشهير في التاريخ الصيني (تشنغ خه)، في أسرة (مينغ) في الفترة من 1405 – 1433، وهو من قومية (هوي) المسلمة، تمتع هذا القائد بدراية كبيرة ومعرفة بأحوال الأسفار وممرّات البحار والمحيطات، فضلًا عن أنه من رجال القصر المقرّبين، اعتمد عليه الإمبراطور (جو دي) لاتصافه بالقوة والقدرة على تعبئة الجنود وإنفاذ المهام الصعبة.

كلّف الإمبراطور البحّار ببعثات تجارية، ومهام خارجية جِسام على المستوى الدبلوماسي والعسكري في مرحلة فاصلة من تاريخ الصين، وذلك نظرًا لثقته الكبيرة فيه وإخلاصه ونبوغه وبراعته.

اتجه تشنغ خه لأداء مهامه في الخارج بأسطول كبير، فقام بسبع رحلات زار أكثر من خمسين دولة ممثلًا لأسرة مينغ التي أقامت علاقات مختلفة ووطيدة مع العديد من البلدان، فانطلق من ميناء ليوجيا  لقربه من مدينة سوتشو بمقاطعة جيانغسو، مارًا بنهر اليانغتسي ومنه إلى بحر الصين الشرقي ثم إلى المحيط الهادي والمحيط الهندي،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وذهب إلى شبه الجزيرة الهندية والملايو وجنوب أسيا الشرقية، كما اجتاز إلى فيتنام وجاوه وسومطرة وسيرلانكا، ودول شبه الجزيرة العربية، ومن أبعد النقاط التي وصل إليها هذا الأسطول على البحر الأحمر والصومال وكينيا على الساحل الشرقي في إفريقيا، وموانىء سيراف والبصرة ومصر خير شاهدة على ذلك.

مساهمته في نشر الثقافة الصينية

لقد سبقت هذه التحركات الملاحية الكبيرة رحلات المستكشفيْن البرتغالييْن فاسكو دا غاما المتوفي 1524، وفرناندو ماجلان المتوفى 1521، وكريستوفر كولومبوس الإيطالي الذي توفي 1506، ويعتبر (تشنغ خه) المتوفى 1433 أعظم البحارة الصينيين، فقد ساهم في نشر الثقافة الصينية ودفع واندماج الحضارات البشرية المتعددة في العصر الجديد، هذه الثقافة التي تتخطي الحدود القومية والتاريخية والدينية والأيديولوجية.

ولكي يعيش العالم في سلام ومحبة ووئام عليه أن يبتعد عن الضغينة والحقد فيؤصّل للعيش المشترك وتقاسم الأفراح والأتراح ونشر القيم الكريمة النبيلة والأخلاق الفاضلة السامية.

نقل البحّار وطاقم أسطوله المنتوجات محلية الصنع إلى الخارج، فالصين دولة كبيرة قديمة تتميز بصناعات كثيرة، منها القماش والديباج وأنواع الحرير والخزف والبرونز والفخّار والذهب والفضة والورق، وكانت السفن تعود مُحمّلة بمنتوجات الدول العربية والأجنبية كالبخور والقطن والأدوية واللؤلؤ.

دوام أثره الطيب

ولقد وطّد تشنغ خه العلاقات القوية والواسعة والتبادل الثقافي بين الصين والدول التي زارها، وكان الكتّاب والمترجمون والحرفيون والجنود والأطباء يرافقونه رحلاته وأسفاره، وتكوّن أسطوله من أكثر من مائتي سفينة، بعضها كان ضخمًا، وتتسع لأكثر من سبعة وعشرين ألفًا وثمانمائة من الموظفين والقوات.

تحتوي كل سفينة على دفّة وشراع وظليلة وهي مكان للجلوس والاستراحة، والأشرعة البيضاء المنتشرة على الشاطىء كالسحب البيضاء تدل وتؤكّد على حُسن العلاقات وتقارب حوار الحضارات وإرساء قيم التعاون والتسامح العالمية.

ولا تزال الآثار الإيجابية الطيبة لهذا البحّار المحبوب ممتدة إلى الآن، فقد أحبه الشعب الصيني خاصة وآسيا عامة، وتم تسمية بعض الأماكن باسمه، ففي بلاد الملايو يوجد جبل سانباو وهو اسم (تشنغ خه)، ومعبد سانباو وبئر سانباو بالقرب من إقليم ملاكا في ماليزيا، ومدينة سانباو في جزيرة جاوه في إندونيسيا، وغير ذلك، وهكذا تُخلّد الأعمال الوطنية النافعة للإنسانية صاحبها حتى بعد وفاته بستمائة عام.

اقرأ أيضاً:

الصداقة في الفِكر الصيني

طريق الحرير في الميزان

فلسفة الصراعات الصين نموذجا

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

د. وائل زكي الصعيدي

خبير مناهج وطرق تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها/ جامعة الاقتصاد والتجارة الدولية

محاضر في: جامعة الدراسات الأجنبية كلية العلوم الإسلامية الصينية / بكين – الصين

دكتوراه فى المناهج وطرق تدريس اللغة العربية

ماجستير في أدب الأطفال، ودبلوم خاص في المناهج وطرق التدريس، رئيس قسم الموهوبين بإدارة ميت أبو غالب التعليمية دمياط سابقاً

عضو اتحاد كتاب مصر