رغم الألم نبث الأمل
أستغرب من نفسي، فبرغم سوداويتي ومرآتي القاتمة تجاه الحياة، إلا أنني أجيد التخفيف عن آلام الآخرين وبؤسهم في الحياة، فأستطيع أن أبث الأمل في نفس كل يائس، والرضى في نفس كل قانط.
ذات مرة جاءني في المسجد رجل بابنه الشاب العشريني، وكان هذا الشاب ممن نشأ وتربى في دولة كندا، حتى إنه لا يتحدث العربية إلا بلكنة إنجليزية. جاءني الرجل وقال لي: “إن ابني هذا أشعر أنه محسود، أو قد مسه طائف من الشيطان، فتأتيه نوبات بكاء عنيفة في الليل، ورغبة في الجلوس منفردا أغلب الوقت، وأهم هذا أنه قد يئس من موضوع الزواج، لأنه ما تقدم لواحدة إلا وأبى الموضوع أن يتم على خير. فأريدك يا فضيلة الشيخ أن تجلس معه قليلا، لتحل عليه بركتك.” وتركني الرجل وتركه.
وفي الحقيقة كنت متحيرا، كيف أفعل مع ذاك الشاب الوسيم الهادئ الذي لا يُخرج كلمة من فمه إلا بحساب، وفي سواد عينيه مني شك وريبة، فقد تربى الشاب في بلاد الكفار، وماذا يفعل مثلي مع شاب درس بلغة الفرنجة، وقد وصفني أبوه منذ قليل بأنني شيخ، وعلى ذلك الوصف فما يفهم منه هذا الشاب أنني سأتحدث له بقال الله وقال الرسول، يا لها من ورطة!
فاقد الشيء أحيانا هو الذي يعطيه
أخذت نفسا عميقا، وأخرجت معه من صدري كل ما أخشاه من مآلات الفشل، وجلست مع الشاب، تعرفت على اسمه وبعض شؤونه، وقد تشجعت، لأن أقول له: “أريد أن أصارحك بشيء”، فقال لي :”ما هو؟”، فقلت له بصوت خافت “بص بصراحة.. أنا مش شيخ ولا نيلة، أنا راجل بتاع فلسفة، فخلينا ندردش مع بعض شوية، ولو حابب تفضفضلي عن حاجه اعتبرني صديق.”، عندها انفرجت أسارير هذا الشاب وكأنني أطلقته من سجنه، لأنه كان يخشى أن أكون شيخا من بتوع العفاريت واستخراج الجن.
صارحني الشاب بأزمته الوجودية والتي كانت بحمد الله عارضة، والتي كانت ملخصة في أزمة الشر الوجودي، فالقدر لا يريد أن يسمح له بالزواج، أذكر حينها أنني استدعيت مثلا ضربه الغزالي في إحدى كتبه، وقلت له: “هب أن طفلا أراد لعبة، ورأى أبوه أنها لعبة لا تصلح له، فهل معنى ذلك أن الأب بخيل؟ أم أن الأب يحب ابنه ويخشى عليه من الضرر؟”، عندها تفتحت عيني الشاب واستنار ذهنه وقال بمصرية شبيهة بالإنجليزية: “كميلة دي”، يقصد أنها “جميلة”.
قمنا وهو في غاية السعادة. نصحته بعض النصائح وطلبت منه بعض الواجبات، والتي كان أهمها أن يدوّن ما يحدث له في اليوم في مذكرة خاصة به باللغة التي يحب أن يكتب بها، وأن يحرص على أن لا يطلع عليها أحد.
بعدها بشهر غادر مصر إلى كندا، وقد اتصل بي يشكر لي تحسنه الملحوظ، وبعدها أخبرني أنه تزوج، بالأمس التقيت بعمه بعد صلاة الجمعة فأخبرني أنه قد استقر أمر الشاب في كندا، وأنه لا يزال يحدثنا فرحته بك وعن بركاتك يا فضيلة الشيخ.. فقلت له “مدد”.. تمتمت بعدها في نفسي بكلمات تقول أن “فاقد الشيء أحيانا هو الذي يعطيه”.
اقرأ أيضاً:
إن كنت محبطًا ولا ترى أملاً، فاقرأ هذه الكلمات
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.