بوئثيوس بين عزاء الفلسفة وعجلة الحظ!
لكل شيء عدو ، لكن عدو الفلسفة ليس كمن نألفهم من الأعداء؛ عدو الفلسفة شديد القسوة، مركب الجهل؛ يقتل دون أدنى تأنيب للضمير، وهل ثمة ضمير لمن اقتلع قلبه وعقله ليقامر بهما على طاولة الحياة؟
عدو الفلسفة هو المسؤول الذي تحول الفلسفة بينه وبين صمت وخضوع الرعية؛ هو المشتغل بالدين زيفًا الذي تقف الفلسفة كحجر عثرة أمام شهواته الناعقة بطلب المال والسلطة والجاه؛ هو الرويبضة الذي تفضح الفلسفة تفاهته كلما تكلم في شؤون الناس… عدو الفلسفة هو الذي قتل «سقراط»، «شيشرون»، «هيباتيا»، «توماس مور»، «لافوازييه»، «شليك»، وغيرهم ممن نعرف أو لا نعرف!
Boethius، Consolation of Philosophy II | Medieval English Literature
Source: https://medievalenglishliterature.wordpress.com/2011/10/30/boethius-consolation-of-philosophy-ii
في عزاء الفلسفة
هذا ما حدث مع الفيلسوف والأديب الإيطالي «أنيكيوس بوئثيوس»Anicius Boethius (480– 524) الذي كتب «عزاء الفلسفة» في زنزانته، بين شدقي الموت، قبل وقت قصير من تنفيذ عقوبة الإعدام بحقه سنة 524 م، تلك التي نالها على خلفية صراع سياسي يدعمه قضاء فاسد، فإذا به يتوسد ذراع الفلسفة، مبدعًا أشهر وأروع نصوص الفلسفة عبر تاريخها «حيث الكتابة أثناء العد التنازلي للأجل المحتوم هي كتابةٌ أخرى،
والغناء على إيقاع خطوات الموت الحثيثة المقتربة هو غناء مختلف، والإبداع بين شدقي الموت هو إبداع استثنائي يمتحُ من نبع الحقيقة الخالصة، لأنه يأتي من برزخ سحيق، وينظر من وراء مسافة نفسية هائلة، فيرى الأشياء بحجمها الحقيقي إذ تختفي الصغائر ولا يعود منظورًا من المعاني إلا كل ما له ثقل وحجم ومقدار»!
في عزاء الفلسفة (ترجمة وتقديم عادل مصطفى، دار رؤية، 2008)، يقيم «بوئثيوس» حوارًا خاصًا بينه وبين الفلسفة، مصورًا إياها كسيدة قدميها على الأرض ورأسها في السماء، مدثرة بثوب لا يبلى، يمتزج في بنيتها الشباب والهرم.
لقد زاول الفيلسوف السياسة، فكان المآل الطبيعي له أن يلقى سخط محتكريها، وأن توقعه المكائد في فخاخها فيُحكم عليه بالموت. وها هو يندب حظه، ويُبدي دهشته من أن يُتاح للشرير أن ينال غرضه من البريء على مرأى ومسمع من الله، ثم يعزف على اللحن الأزلي قائلاً: إذا كان الله موجودًا فمن يأتي بالشر؟
ويرفع إلى السماء زفرة تشفع حرارتها لجرأتها: أنت يا من تُمسك بزمام كل شيء، انظر من فوق إلى بؤس الأرض، فالبشر ليسوا جزءًا هينًا من هذا العمل العظيم. البشر تتقاذفهم أمواج القضاء. أوقف! أيها الهادي، الطوفان الجارف. ومثلما تُوثق السماء اللانهائية بوثاق يحكمها، أوثق أصقاع الأرض وثبتها بوثاق مثله!
الفلسفة مشخصةً الداء وواصفةً الدواء
وقتئذ تتدخل الفلسفة مشخصةً الداء وواصفةً الدواء: «لأنك سادرٌ في نسيانك فقد رُحت تتحسر على أنك منفيٌ ومجرد من ممتلكاتك. ولأنك لم تعد تعرف ما هي بالضبط غاية الأشياء، فقد حسبت أن التافهين والمجرمين أقوياء وسعداء. ولأنك نسيت الطرائق التي تُسيّر العالم فقد ظننت أن ضربات الحظ تتخبط هنا وهناك بغير ضابط،
ومن التشخيص الصحيح يبدأ العلاج الصحيح، ومن الجذوة الباقية من ذاكرته الخابية تكون الخطوة الأولى… فما تزال لدينا الشرارة الكبرى لشفائك، وهي رأيك الصائب عن إدارة الكون. فأنت تؤمن أن الكون لا تحكمه المصادفة العشواء بل العقل الإلهي. إذن لا تخش شيئًا، فمن هذه الشرارة الضئيلة سوف ينبثق فيك وهج الحياة».
«لعلك تأسى على تبدل الأحوال وتغير الحظ، وعلى سقوطك من ذُرى المنصب والثراء إلى حضيض اليأس والقنوط، فلتتعرف إذن على هذا المسخ (الحظ) الذي يُغوي بالصحبة نفس الأشخاص الذين ينوي أن يخدعهم ويقلب لهم ظهر المِجَن. يخطئ من يظن أن الحظ قد أدار له ظهره، فالتغير هو جوهر الحظ وماهيته.
والحظ في تقلبه وتبدله إنما هو حافظٌ لعهده وثابتٌ على مبادئه… هذه أحكام اللُعبة. وفهمها، مجرد فهمها، يعفيك من أن تبتئس حيث لا ينبغي الابتئاس… الثبات على التغير! ذلك هو طبع الحظ ودأبه وديدنه. فلتفرح إذن بأنك كشفت الوجه المتقلب الأعمى الذي يدير عجلة الحظ، فلقد تخلى عنك ما لا يأمن له أحدٌ ولا يثق ببقائه إلى جانبه على الدوام»!
الفلسفة لا تُغير الأشياء ولا تعكس الحظ
«الفرق إذن هو فرقٌ في المنظور بين رؤية الله ورؤية البشر. وإنما يأتي العزاء من محاولة العُلو إلى رؤية أحداث العالم كما يراها الله بقدر المستطاع، وبقدر ما يُمكن أن يُتاح للبشر. وإنما يأتي القنوط نتيجةً للرؤية الضيقة والمُغرقة في البشرية والأرضية.
مهمة الفلسفة أن ترتفع ببصائر الإنسان وأن تهبه شيئًا من الرؤية الإلهية. وما دام للفلسفة مثل هذه القدرة فإنها أمل الإنسان في العزاء… إن الفلسفة لا تُغير الأشياء ولا تعكس الحظ، غير أنها تقدم فهمًا تعود بعده أحداث الحياة مقبولة، بل مُمتعة… ولدينا من حرية العقل ما يقهر القهر، فلا نعود نرى القيد قيدًا، ولا نعود نرى السجن سجنًا».
هكذا العزاء… تمتزج فيه ترنيمات الفلسفة بأروع مقطوعات الموسيقى، فما الموسيقى إلا صناعة فلسفية! وهكذا هي الفلسفة دائمًا: فهمٌ وبردٌ وسلام؛ الفهم ترياق، وليس عليك أن تغير ما لا قِبل لك بتغييره، بحسبك أن تفهمه، لقد احتضر بوئثيوس مبتهجًا على سرير الفلسفة.
ونحن؟ ما نحن؟ ما بالنا نلتمس العزاء لبؤس واقعنا في العُري والعُهر والنفاق ومناجاة عجلة الحظ؟ ما بالنا نتخذ من الفلسفة عدوًا فلا يزداد واقعنا إلا بؤسًا؟ ما بالنا نحارب العقل، ونشوه الدين، ونعبث بالتعليم، فنتوه في غيابات الجهل وتلحقنا مصارع السوء؟
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.