عجينة الدكتور المسيري.. وفضيلة المرونة الذهنية
كما نقول “تفاحة نيوتن”، يمكننا أن نقول “عجينة الدكتور المسيري”، وقصة ذلك تتمثل في مثال أورده الدكتور المسيري في كتابه (رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمار)، ومفاد ذلك أن كل أستاذ جامعي يمتلك قطعة واحدة من العجين لا أكثر ولا أقل (مجموعة من المعلومات المتوافرة لديه)، ويقوم بتشكيلها حسب الطلب.
فهي تارة مقال “مربع”، وتارة أخرى بحث في مؤتمر “مستدير”، وتارة ثالثة حديث إذاعي “كالإصبع”، ولكن في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير هي عجينة واحدة تأخذ أشكالا عدة بلا اكتشاف ولا بحث ولا تركيب، وكل ما يحدث للعجينة إضافة معلومات تزيد من حجمها وامتدادها الأفقي.
ومع ذلك يظن كثير من الناس الآن -كما يشير د. المسيري- أن أي كلام موثَّق هو تأليف، بينما هو في واقع الأمر رَصّ. وثمة فارق شاسع بين “الرصِّ” و”الرصانة”، وبين “التحديق” و”التحليق”.
إن طريق الإبداع طريق وعر وليس سهلا أو معبدا مثل طريق النقل السريع، وإن على من يسعى لأن يكون بين المفكرين أن يدرك أن طريق المفكرين يبدأ بحب البحث، وينتهي بالتفاني في البحث.
وأن من سمات المبدعين أنهم ينتجون عددا كبيرا من الأفكار الفجَّة والناضجة، ويملكون القدرة على التحليل والاستدلال، وهم دائمو النظر قويُّو الملاحظة، وهم حتى وإن توقفوا عن حل المشكلات، لكنهم يظلون دائمي التفكير فيها، ويحبون التغيير والتجديد، وينفرون من الإغراق في التقليد، ويعشقون التجريب والمحاولة، وكثيرا ما يقدمون أفكارا يعدها كثير من الناس غير معقولة أو مستحيلة التطبيق، ولديهم قدرا من المرونة الذهنية، فهم قادرون على استخدام طرق كثيرة للوصول إلى الفكرة الصحيحة، وهم أناس إيجابيون مرحون متفائلون، يملكون قدرا من الشجاعة والحزم.
المرونة الذهنية
والمرونة الذهنية هنا هي: “قدرة العقل البشري على إدراك الفروق الدقيقة بين الأشياء، والمراوحة المستمرة بين الأسس والأصول وبين المسائل الفرعية التخصصية.” _د. عبد الكريم بكار. ومما يسهم في تكوين المرونة الذهنية إدراك جملة الفروق والاختلافات بين البشر، وأنه لا يمكن جعلهم نسخا مكررة بعضهم عن بعض في كل أمر، بل إن الله خلقهم مختلفين ليكمِّل بعضهم بعضا على جميع المستويات. ففي الاختلاف ثراء وتنوع وإخصاب وتعاون، وهو عامل أساسي في توازن الحياة العامة.
وقد أشار جان ماري بيلت _في كتابه “عودة الوفاق بين الإنسان والطبيعة”، سلسلة عالم المعرفة، العدد 189، 1994_ إلى أن النساء بوجه خاص يتمتعن بقدر أكبر من المرونة والتكيف مما يتمتع به الرجال، وخاصة عندما يكنَّ أمهات، يُعدِّلن رؤيتهن للأشياء على إثر احتكاكهن بأطفالهن، وتلك سمة أخرى مثيرة للعجب من سمات عصرنا، تلك التربية العكسية التي لم تكن لتفهمها المجتمعات التقليدية التي كانت توقِّر السن والخبرة.
إن الإحاطة بموضوع ما، وجذوره، وأسبابه، وعواقبه، ووجوه ارتباطه مع موضوعات أخرى، تجعل المرء يتحلى بفضيلة المرونة الذهنية، التي توجِد للإنسان مساحات للحركة يوازن فيها بين الخير والشر وأنواع الخير وأنواع الشر، فيحاول من خلالها النفاذ إلى تحقيق خير الخيرين، ودفع شر الأشرار، كما يحدد علاقته بذلك الموضوع، وما يمكن تجاوزه منه، وما لا يمكن.
والمشكلة أن التغييرات البطيئة تجعل قدرة الناس على القبض على بداية الانحدار وإدراك ظروفه ضعيفة جدا، وهذا ما يجعل المعالجة عسيرة.
دور المفكر النابه
وهنا يأتي دور المفكرين النابهين الذين يحسُّون بالانحراف البطيء الذي يصيب أمتهم وحضارتهم، فتكون مهمتهم أن يقرعوا طبول الخطر، وينذروا بالعاصفة قبل هبوبها بسبب معرفتهم بسنن الله في المجتمعات والثقافات، وبسبب حاسة (الاستشعار عن بعد) التي يمتلكونها.
إن عامة الناس يحسون بالكارثة والفتنة حين تظلهم، ويكتوون بنارها، أما المفكرون فهم الذين يشعرون بالخطر قبل إحداقه. وفي هذا يقول (سفيان الثوري): “الفتنة إذا أدبرت عرفها كل الناس، وإذا أقبلت لم يعرفها إلا العالِم”.
إن صياغة القطعة الفكرية هي نتاج حدس طويل يتكثَّف، ويسترجع المفكر مخزونه من القواعد والانطباعات والتجارب ويوزعها في هندسة بديعة، ويضع لها خارطة قبل البدء بتدوينها، والبيئة والتحديات لها تأثير في نوع اهتمامه.
أما على مستوى المضمون فإن الباحث يجب أن يكون عابرا للأنواع، فيطوف على علوم شتى، سائلا إياها أن تمنحه منها ما يقتطفه أو يقتبسه أو يستفيد منه ويحاوره ويحاججه ويستعين به في مسار آخر وفق قاعدة “العلم بمدخله وليس بموضوعه”، كما يقول د. عمار علي حسن في كتابه الخيال السياسي.
إن المفكر يعشق العبور في كل الاتجاهات، ويتأبَّى على الحشر في الزوايا الضيقة، ولهذا فإنه لا يَعبُرُ الجزئي إلى الكلي فحسب، ولكنه يَعبُرُ الكلي إلى الجزئي أيضا. ومن صفاته أنه يمتلك رؤية نقدية شاملة ينقل من خلالها تناقضات مجتمعه والصعوبات التي يعاني منها إلى حس الناس وأعصابهم. حسب وصف د. عبد الكريم بكار.
أهمية التفكير
يقول أحد المفكرين : “إذا كنت تقرأ لتوفر على نفسك التفكير، فقد يكون من الأحسن لك التوقف عن القراءة تماما”. إن القراءة لا تصنع مفكرا عظيما، وليست هي البديل عن الفكر، وكما يقول (جون لوك): “إن القراءة لا تمدُّ العقل إلا بمواد المعرفة، لكن التفكير هو الذي يجعل ما نقرؤه ملكا لنا”.
والمفكرون -في الغالب- لا يملكون أي أداة لتنفيذ أفكارهم وإحالتها إلى شيء واقع معيش، بل لا يملكون الوسائل الناجعة لإيصال أفكارهم. والذين يغلب عليهم حِسُّ العمل والحركة والدعوة ينظرون إلى مسائل الفكر والتخطيط على أنها من لهو الحديث وإضاعة العمر في كلام لا يقدِّم ولا يؤخر.
وفي هذا يقول أحد المفكرين : “لدينا أفكار كثيرة لا تجد سبيلها إلى التطبيق، وأعمال كثيرة لم تُسبق بأي تفكير”. والمفكر الحق لا يستطيع أن يبني قصورا شاهقة على أساسات واهية، ولا يرضى لنفسه أن يصوغ العبارات الجازمة والمحددة، وهو غير متأكد من صلابة المعطيات التي في حوزته.
فالتفكير “النقدي” هو الذي يحلل ويُقيِّم ويستنبط ويفسر ويقرر، والتفكير “الخلَّاق” هو الذي يركب ويعدل ويستقرئ ويكتشف ويخترع، كما أشار د. نبيل علي.
إنك لتشعر بالذهول وأنت تقرأ لمفكر متمكِّن حين ترى الحدود الفاصلة بين العلوم تذوب بين يديه، وحين تشعر أنه يتحدث إليك عن معان حاضرة، غائبة وسهلة، ممتنعة ومتماسكة، منفتحة.. إن المفكر يبدو لنا أحيانا كمن يبحث عن إبرة ذهبية في كومة قش، وهو من أجل ذلك يعاني ويعاني، لكن الثمار مذهلة وفريدة.
حالة العقل
إن أعظم النفائس التي سنحصل عليها تلك التي نجدها في غير نظامها، وهذا ما يعيه المفكر بعمق. فهو قد يحتاج إلى معرفة معاني عشرين أو ثلاثين ألف كلمة على حين أن الإنسان العادي لا يستخدم أكثر من خمسة آلاف إلى ستة آلاف كلمة.
إن الحضارات الثلاث (اليونانية والعربية والأوروبية الحديثة) هي وحدها التي أنتجت ليس فقط العلم بل أيضا نظريات في العلم، إنها وحدها -في حدود ما نعلم- التي مارست ليس فقط التفكير “بالعقل” بل أيضا التفكير “في العقل”. كما يؤكد ذلك د. محمد عابد الجابري.
وفي تشبيه جميل وبليغ أورده ابن القيم يقول فيه: “وهذه النفس -النفس البشرية- شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه، فإن وضع فيها حبا طحنته، وإن وضع فيها حصى طحنته، فمن الناس من تطحن رحاه حبا يخرج دقيقا ينفع به نفسه وغيره، وأكثر الناس يطحن رملا وحصىً وتبنًا ونحوه، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة عجينته”.
وهي بالمثل حالة العقل الذي يعمل على الأفكار والحقائق (الحبوب)، ويعيد بلورتها (طحنها)، لتنتج الفكر والحقيقة (العجينة)، التي تتوقف جودتها ونوعيتها في المقام الأول، ومن ثم حجمها وسعة امتدادها في المقام الثاني، على نوعية الأفكار والحقائق التي عملت عليها.
اقرأ أيضاً:
أوقات الأزمات وتجلي التفكير العلمي
التفكير من المفهوم إلى الإجراء
ضرورة قواعد التفكير المنطقي للعقل
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.