مقالاتسارق ومسروقفن وأدب - مقالات

سارق ومسروق – الوجه الثاني والعشرون

أربعون وجها للص واحد "متتالية قصصية"

ماذا لو تلاقت الوجوه؟

سأل السارق نفسه، وراح يتابع ذوبان السؤال في الهواء أمامه، وسط دخان سيجارة لم تكن بين شفتيه، فهو لا يدخن.

كان في حاجة إلى تفكير عميق في الإجابة فتذكر ما سمعه من زميله ذات يوم حين كانا يجلسان سويًا على صخرة عالية تطل على صحراء مترامية، وهو يجيب على سؤاله عن فائدة التدخين.

كان الرجل يتوهم أن عقله يلمع بينما الدخان يخرج من فمه ومنخريه، وها هو السارق يستعيده كلما جلس للتفكير، ولأن ما يقوله ويفعله المسروقان الأخيران هو ما يقلقه الآن، كان عليه أن يدير رأسه جيدا ليصل إلى طريقة آمنة في التعامل معهما.

وصله خبر يقول إن المسروقين يتواصلان سويا، يواسي كل منهما الآخر، لكنهما لا يفكران في أي تصرف مضاد.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كيف يتيقن من هذا؟

لم يكن أمامه من سبيل سوى التفتيش في صفحتيهما على “فيسبوك”. راح يجوبهما صعودا وهبوطا، فتتوالى الكلمات والصور، دون أن تحمل أي جديد، فالرجلان، على النقيض من حالته، مقتصدان جدا في التعامل مع موقع التواصل الاجتماعي هذا.

قال لنفسه:

غضب أخي ليس له حد الآن، وعليَّ أن أنتظر حتى يهدأ… بعد شهر أو حتى بعد سنة، لا يهم، في النهاية ليس أمامه خيار سوى الرضوخ.

وردت إلى ذهنه في هذه اللحظة مواقف عديدة بينه وأخيه، فعاد يؤكد لنفسه في ثقة: سيرضخ لا محالة.

لهذا فضل أن يبدأ بالمسروق الكبير، وتحدث بصوت مسموع، جعله يتلفت حوله، خوفا من أن يكون قد سمعه أحد من أسرته:

ـ هو كبير القلب أيضا.

نقر على أيقونة الرسائل، وأرسل له “فيديو” قصيرًا يحوي أدعية مؤثرة، فهو يعرف أن قلبه يلين للدعاء.

أرسل ما أراد، وبدأ الانتظار… ترك صفحته مفتوحة، يتجول بين الحروف والألوان والرموز، ويعود، ليجدها على حالها. لم ير المسروق الرسالة بعد، فاطمئن إلى هذا، فهو يعرف أن الرجل لا يهتم كثيرا بالـ “فيسبوك”، وقال وهو يفتح صندوق الرسائل من جديد:

ـ احتاجت السرقة لبعض الوقت، وتفادي آثارها يحتاج إلى وقت أطول.

رد قاس من المسروق

لم يكن يدري في هذه اللحظة أنه يفتح لنفسه بابا للقلق، فهو اعتاد أن تُلبى أوامره، ويُستجاب لرسائله، فور صدورها! نعم هذا لا يحدث بعد أن فارق بقعة الصحراء المحاطة بأسلاك شائكة، وأُجبر على ترك رجال اللون الواحد، الذين لهم آذان ضخمة وأفواه يكاد الناس ألا يرونها، لكنه لا يريد أن ينسى ما كان عليه، وذهب عنه.

كيف يظل كل هذه الأيام دون أن يفتح الرسالة؟

سأل نفسه غاضبًا، وزاد غضبه فأراد إلغاءها، لكنه لم يعرف. كلما فتح، وجدها أمامه كما أرسلها، لم ترها عين. صارت ندبة سوداء على جبهته، بل لطخة وضعوها على ظهر يده بدلا من قطعها، ما إن ينظر في المرآة حتى يراها علامة تقول له بوضوح:

ـ أنت لص!

كان يدرك أن بوسعه القيام بحظر حساب المسروق تمامًا ويستريح، لكن رغبته في متابعته كانت أشد، فكبح جماح نفسه، وبلع ريقه الذي كان يجف من فرط الحرقة التي تشتعل في أوردته، وأرسل ثلاث أيقونات ترمز إلى الدعاء، فصارت هناك رسالتين منه، تنتظران الرد.

جاءه الرد فعلا بعد عشرة أيام، دخل خلالها على صندوق الرسائل سبعين مرة. كان الرد مُحبِطًا له، مخيبا لأمله، إذ لم يزد على: (!!!!!!!!!).

“يا له من رد قاس” ..

السارق لا يستسلم لعدم الرد

تحدث السارق إلى نفسه بصوت مسموع، وكررها مرات، وهو يهز رأسه، محاولًا أن يسقط كل ما دار فيه من غيظ، حتى يتخفف من الألم.

التفت إلى يمينه، فوجد صورة ضخمة له معلقة على الحائط وهو يمد يده في لهفة نحو الكعبة، وعلى وجهه علامات التبتل، بينما تبدو رؤوس الطائفين مصطفة تحت أصابعه. إنها الصورة التي يعتز بها، والتي كلما لمحها كرر عبارته، التي صارت تثير اشمئزاز كل من حوله:

ـ قائد كبير حتى في الحرم الشريف.

تحتها على الأرض تتمدد سجادة الصلاة، وفي طرفها سبحته التي يمرر أصابعها فوق حباتها بعد كل صلاة يؤديها في البيت، ويلهج لسانه باسم الله.

أبعد كل هذا يضع لي علامات تعجب على أدعية أرسلها له؟

سأل نفسه، ونهض وتقدم نحو “اللاب توب”، ففتحه، وكتب له:

ـ “فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى“.

ابتسامة لم تطل كثيراً

وبحث في أحد المواقع الدينية عن تفسير للآية، فاقتطع منه جزءا، وضعه في رسالة لاحقة، يقول: “هل توقف من يحكمون على إيمان الناس عند هذه الآية؟ .. أظن أنهم مروا عليها ولم يفهموها، وإلا ما كل هذا الغرور الذي يجعل هناك من يعلقون على كثير مما يكتب، باعتبار المعلق وكيل الله والمعلق عليه في ضلال مبين”.

وفكر أن يلتقط بعدسة هاتفه صورته المعلقة على الجدار، وصورة أخرى لسجادة الصلاة والسبحة، ويرسلها أيضا، لكنه آثر انتظار الرد.

بعد ثلاثة أيام فتح المسروق الأول رسالتيه. فتحها في لحظة كان السارق يراقبها. فجأة حطت على الرسالتين تلك العلامة التي تبين أنهما قيد القراءة الآن، ثم ظهر ما يؤكد أن المسروق يكتب ردا.

انتشى السارق، وهز رأسه معجبًا بنفسه، فها هو قد جعله لا يكتفي هذه المرة بوضع علامات تعجب أو أي رموز أخرى، تأتي بالرد مغلفًا باحتقار واستهانة. هذه المرة طال الوقت، ولم يتوقف إظهار أن المسروق يكتب، ويكتب. تختفي العلامة التي تبين أنه يكتب، ثم تعود. والسارق يقول لنفسه:

ـ لا بد أنه يفكر بعناية فيما يكتبه.

وقف أمام الشاشة، يثني ذراعيه ويفردهما ثم يضمهما ليتلاقى كفاه في تصفيق مرح، وعلى وجهه ابتسامة عريضة، لم تلبث أن اختفت حين جاء الرد، ولم يكن هذه المرة سوى أيقونة صفراء تعبر عن الاندهاش.

اقرأ أيضاً:

الوجه الأول، الوجه الثاني، الوجه الثالث، الوجه الرابع، الوجه الخامس،الوجه السادس

الوجه السابع، الوجه الثامن، الوجه التاسع ،الوجه العاشر، الوجه الحادي عشر

الوجه الثاني عشر ، الوجه الثالث عشر، الوجه الرابع عشر، الوجه الخامس عشر،الوجه السادس عشر

 الوجه السابع عشر، الوجه الثامن عشر، الوجه التاسع عشر، الوجه العشرون، الوجه الحادي والعشرون

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري