حُب الفلاسفة!
في فيلم وثائقي يتناول سيرته الذاتية سنة 2002، سألت المخرجة «آمي زيرنج كوفمان» Amy Ziering Kaufman الفيلسوف الفرنسي «جاك دريدا» Jacques Derrida: “ما الذي تود أن تراه في فيلم عن «إيمانويل كانط»، «هيجل»، و«مارتن هايدجر»؟”، صمت «دريدا» للحظات قبل أن يجيب: “حياتهم العاطفية!”. أصابت الدهشة المخرجة، ثم سألت: “لماذا؟” فأجاب «دريدا»: “هؤلاء الفلاسفة لا يتحدثون أبدًا عن تجاربهم العاطفية الخاصة. لكني أتساءل: ما الذي يمكن أن يكون أكثر أهمية بالنسبة لهم ولكتاباتهم من الحب، وأولئك الذين يحبونهم، وممارسة الحب؟”.
الفلاسفة وحياتهم العاطفية
لا شك أن الفلسفة لديها كثيرًا مما يمكن أن تقوله عن الحب بصفة عامة، بل لعلها بدأت بالسؤال: ما هو الحب؟ ومع ذلك – يستطرد «دريدا» – لا نجد إلا قليلا من النصوص مما يقوله الفلاسفة عن تجاربهم الحياتية في الحب، على الأقل في كتاباتهم الفلسفية، رغم أن النظرة المدققة تُطلعنا بوضوح على أنهم كان لديهم كثيرٌ مما يمكنهم قوله عن حياتهم العاطفية.
إن كتابات «أفلاطون» و«أرسطو» مليئة بالإشارات إلى الحب اليوناني، والعلاقات بين الشخصيات المختلفة في هذه النصوص ليست دائمًا «أفلاطونية»!
أما القديس «أوغسطين» St Augustine فقد أسس نوعًا طائفيًا من الكتابة، فهو يكتب عن أيام عزوبيته واصفًا نفسه بأنه عاشقٌ لكثيرٍ من النساء، سائلا الله قائلا: “رب امنحني العفة والزهد، لكن ليس الآن!”، ولعل قصة فيلسوف العصور الوسطى «بيتر آبيلارد» Peter Abelard ومعشوقته «إلواز دي أرغنتويل» Héloïse d’Argenteuil معروفة جيدًا.
لقد كانت رسائل العشق المتبادلة بينهما واحدة من أعظم نماذج أدب المراسلات في تاريخ الكنيسة الغربية، كما كانت قصائد الحب التي كتبها «آبيلارد» مؤثرة على الأقل في حياته مثلما كانت كتاباته الفلسفية واسعة النطاق، إلخ.
التفكير في الحب بطريقة فلسفية قد يؤدي إلى نوعٍ من البرود البحثي، فما أصعب تعريف الحب وتصنيفه وفقًا لمقولات جامدة تبتعد به عن المُكون الإنساني غير القابل للبحث والمساءلة.
وقد يكون الفلاسفة بمثابة نماذج مضيئة في الفكر، لكنهم في الغالب نماذج سيئة للغاية في الحب، وهو ما تنبه له الكاتب الأمريكي «أندرو شافير» Andrew Shaffer في كتابه: «فلاسفةٌ كبار فشلوا في الحب» Great Philosophers Who Failed at Love (2011)، حيث أكد أن العقول الكبيرة عادة ما تكون مقترنة بالقلوب المُحطمة، وأن الحب يبدو دائمًا مُقاومًا لكل شكل من أشكال العقلنة التي يتمثلها الفلاسفة!
سورين كيركجارد وتحطيم قلب معشوقته
ذات يوم ربيعي من سنة 1837، التقى الفيلسوف الدنماركي «سورين كيركجارد» Soren Kierkegaard (وكان في الرابعة والعشرين من عمره) فتاةً تبلغ من العُمر أربعة عشر عامًا: «ريجين أولسن» Regine Olsen، ووقع على الفور في حبها، لكنه انتظر ما يقرب من ثلاث سنوات كاملة كي يُصرّح لها بحبه، ومع ذلك، وبعد ثلاثة عشر شهرًا فقط من خطبتهما، ورغم افتتانه البالغ بها، باتت تساوره الشكوك حول مدى قدرته على أن يكون زوجًا صالحًا ومُحبًا؛ كان يخشى أن يؤدي إخلاصه للمسيحية من جهة، ولعمله من جهة أخرى، إلى زواج يفتقر إلى السعادة، وكان ثمة اعتقاد ينهش في عقله مؤداه أن الله يدعوه إلى العزوبية، وأن حياته ستنتهي قريبًا نظرًا لسوء حالته الصحية!
وهكذا لم يتردد في أن يرسل خطاب وداع لأولسن مع خاتم خطبتها.. وما أن قرأت «أولسن» الخطاب حتى انطلقت متثاقلة بالحزن إلى منزل «كيركجارد»، لم تجده، فتركت له رسالة تلمتس منه فيها ألا يتركها.. لكنه عقل الفيلسوف المزدحم بنسقية الفكر وصرامته، عقل الفيلسوف الذي حطَّم معشوقته وأبقاه عازبًا بقية حياته!
لم تنفصل الفلسفة يومًا عن فكرة الحب، ولم يكتب الفلاسفة إلا انطلاقًا من فكرة الحب، ومن تجارب وجَّهت حياتهم وأفكارهم ومشاعرهم ومواقفهم، لكن أغلبهم لم يكن موفقًا في حبه أو زواجه، ومع ذلك لا أتصور أن تكون الحكمة إلا ثمرة من ثمرات الحب!
يقول نجيب محفوظ: “قد نضيق بالحبّ إذا وُجد، ولكن شَدَّ ما نفتقده إذا ذهب!”.
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.