مقالاتسارق ومسروقفن وأدب - مقالات

سارق ومسروق – الوجه الحادي والعشرون

أربعون وجها للص واحد "متتالية قصصية"

حين كان السارق يمشي على قدميه، ينظر في غيظ إلى راكبي السيارات، ويقول:

ـ متعجفرون لا يحسنون القيادة.

ولما أصبح يركب سيارة، راح ينظر في تأفف للعابرين، ويقول:

ـ بلهاء حقراء لا يحسنون حتى السير في الشوارع.

لكنه صار يرى كل السائرين مسروقيه الاثنين فقط. قريبه الكبير، في السن والمقام، وأخوه المريض، الذي يجلس في بيته متحسرا على ما جرى له. هذان فقط اللذان يطاردانه، باللسان والطيف. أما الآخرون الذين وقعوا في شراكه، فلا ينشغل بهم، بل يتلذذ كلما وجد في أي منهم مسكنة وهو يشكو ويئن.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بدا مطمئنا دوما إلى أن التهديد لن يخطر لأحد منهم على بال، فمن ذا الذي بوسعه أن يهدد رجلًا ظهره مسنود إلى حائط صلب، يلين تحت عظامه، بينما تبرز منه حراب مسنونة عن يمينه وعن شماله، وتحته ومن فوقه، تبقر بطون، وتشق صدور، وتفقأ عيون، أي من المهاجمين، وهي تصرخ:

ـ نحن أصحاب كل شيء.

لم يشغله سوى اثنين من المسروقين

كان هو حريصًا على أن يذكرهم كلما التقاهم، أو تحدث معهم عبر الهاتف، أو راسلهم على البريد الخاص في “فيسبوك” أو “الواتس آب” أنه ينتمي إلى أولئك الذي صاروا في السدة، وأنه كان مع كبارهم في الصحراء الممتدة، ولا تزال تربطه بهم علاقة وطيدة.

وحين هدده أحدهم، وهو يصرخ في وجهه:

ـ سأبلغ الشرطة.

قهقه، وقال له:

ـ كان غيرك أشطر، هذا كلام قديم.

لم يكن يقول الحقيقة، ولم يعنه هذا أبدًا، فالذي يستمرئ السرقة، يجري الكذب على لسانه، أسرع من جريان ريقه على ما في جيوب الناس.

كان يكذب عليهم، ويعلم أنهم يعلمون أنه يكذب، لكن ليس أمامهم من سبيل سوى إيهام أنفسهم بأنه سيصدق معهم. لم يأت الصدق ولو في مرة واحدة، ولم يشغله ما يدور في رؤوسهم، إلا اثنين من المسروقين، كان كلما ركب سيارته رآهما يمضيان أمامه في الشارع على مهل. تسرع السيارة ولا ينقطع وجودهما على الرصيفين، الأيمن والأيسر. يسأل نفسه في فزع:

ـ شخصان هذان أم كل واحد بألف، وربما ألف ألف.

فحتى على الطريق السريع في ذهابه وإيابه، والسيارة تنطلق فتجعله ينتشى، لا يلبث أن تنطفئ فيه كل نشوة كلما رآهما على الجانبين، ينظران إليه في استخفاف.

اقرأ أيضاً:

الوجه الأول، الوجه الثاني، الوجه الثالث، الوجه الرابع، الوجه الخامس

الوجه السادس، الوجه السابع، الوجه الثامن، الوجه التاسع ،الوجه العاشر

الوجه الحادي عشرالوجه الثاني عشر ، الوجه الثالث عشر، الوجه الرابع عشر، الوجه الخامس عشر

الوجه السادس عشر، الوجه السابع عشر، الوجه الثامن عشر، الوجه التاسع عشر، الوجه العشرون

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري