التفاعل الانساني
نحن في هذا العصر ضحايا لأفكارنا التي سلمنا بها و وافقنا عليها دون التحقيق فيها أو حتى الشك في صحتها. هذه الأفكار رُسمت لنا في خيالنا و عقولنا منذ نعومة أظافرنا. لم نختار أن نزرعها و لكن قطعًا اخترنا ألا نـُعمل عقولنا فيها بعد أن بلغنا أشدنا وملكنا زمام أمورنا. لقد وعدنا زارعي هذه الأفكار أنها سبيلنا للسعادة و أنها المفهوم الصحيح للحياة و لكن لم تتحقق هذه الوعود البراقة و لا تلك الأماني الخلابة. لقد وجدنا أنفسنا عند العمل بهذه الأفكار ننقاد كالثور في الساقية ندور و نلف على غير هدى في حلقة مفرغة من الصراع مع نفس المشكلات كل يوم. ونأمل مع الوقت أن نصل في النهاية للسعادة و لكن نصطدم عند نهاية كل لفة بالواقع المرير أننا عدنا من حيث أتينا. عن الأفكار المادية و النسبية العبثية و الموروث الاجتماعي الفاسد أتحدث.
لقد سيطرت علينا تلك الأفكار عن السعادة في المادة و النسبية في الحق لدرجة أن المجتمع لم يعد يتخيل إمكانية التشكيك في تلك الأفكار. لم يعد هناك بديل فكري يمكن للمجتمع أن يتصور الحياة على أساسه. وإن المرء منا إذا تجرأ و انتقد تلك المنظومة الفكرية التي يسير عليها الناس من حيث ضعف كفاءتها و انعدام صحتها في تحقيق الهدف الأساسي المرجو منها -ألا و هو السعادة الإنسانية-. يجد الناقد لتلك الأفكار وابلًا من الرصاص و طوفان من الهجوم العنيف يواجهه و كأن مجرد التفكير في إمكانية وجود البديل في حد ذاته حتى دون محاولة الوصول له جريمة. و تبكي الإنسانية المعذبة وتئن من الألم و العدمية المادية والنسبية ولا تجد منا غير التجاهل و التعصب و الإنجراف المتطرد وراء الشهوات و الملذات.
إن إنسان اليوم يذكرني بقصة يحكيها التاريخ عن سكان الإسكيمو في الشمال القطبي. تحكي القصة عن طريقة مخادعة كانوا يصطادون بها الذئاب من أجل فرائها الدافئ. لقد كان الصياد يأتي بسكين و يغرز مقبضها في الجليد بعض أن يغمس نصلها في بعض الدم. و يترك الصياد نصل السكين الدامي للهواء الطلق فتجتذب رائحة الدماء الذئب الذي سرعان ما يبادر إلى منبع الرائحة. و عندما يلعق الذئب الدماء من على السكين يجرح لسانه فيزيد الدم. فيعتقد الذئب أنه نال صيدًا سمينا. فيستمر باللعق غير مدركًا أنها دمائه هو التي يشربها. فلا يمضي الكثير حتى يخر الذئب صريعًا هالكًا بعد أن شرب كل دمائه. و ينال الصياد صيده الثمين فيسلخه ليستفيد من فراءه. هكذا هي خدعة الدنيا تستهلكك بالملذات و الشهوات و تلهيك عن التفكير و لو للحظة. ماذا أفعل بحياتي؟ أين أنا و ماذا أريد؟ و إلى أين أنا؟ و لا تفيق إلا بعد فوات الأوان و لتجد نفسك أسير الدنيا و عبدها تصارعك زفرات الفراق على فراش الموت و تتمنى لو تعود و لو لحظة للوراء لتصحح من اختياراتك و لكن لكل أجل كتاب.
لو أنك في انغماسك في تلك الملذات و جمع الأموال و الثروات جاء لك أحد الناصحين و قال لك أنه ينبغي أن ترضي روحك و عقلك كما ترضي جسدك و شهواتك. ماذا سيكون ردك. بعض الردود الدارجة “أنا عايز أعيش” أو “إنت عايزني أشحت يا عم”. و هذا هو الطراز الفكري الشائع نوع مركب من التعميم و الثنائية الذي يؤدي حتما للتطرف و التسرع دون تدبير و تفكير. الغريب أكثر هو أنك إذا سألت نفس الشخص ماذا يميزك عن الحيوان سيصرخ بثقة و يقول العقل والتفكير دون أدنى تردد. إذن لماذا لا تعطي بعض الوقت لجل ما يميزك عن كونك قردًا أو بغلًا؟ موضوع يستحق التفكير صحيح!
لو راقب المتأمل شباب اليوم و كهولهم -و هم مصدر القوة و العزيمة و الطاقة لأي شعب- لو راقبناهم و سجلنا ملاحظات عن السمة العامة في التفاعل بينهم ماذا سيظهر لنا؟ سيظهر لنا جليا أن جم التفاعل بينهم مادي لهوي دنيوي شهواني إلا من رحم الله. الأساس هو الألعاب الإلكترونية والمقاهي و اللعب اللهوية والكلام الفظ أو العبثي و غير ذلك الكثير مما قد لا يسمح الموقف بسرده. لا أعلم لماذا إذا نشكوا حينما نوضع في موقف نحتاج فيه لقرار حكيم و رأي سليم فلا نجد أكثرنا يفقهون. و تسكت الألسنة و تسكن الأنفاس و كأن على رؤوسنا الطير. و يدرك الإنسان حينها أنه قد أضاع عمره هباءًا لاهيًا لاعبًا دون أن يتعلم فيحتمي بآخر سلاح يمتلكه ليخفي جهله وهو الغضب. فيثور وينفعل ويغضب ويتعجرف ويتكبر ويتسرع في الحكم. أو ينزوي و يضمحل و ينعزل ويستسلم و يبرر فشله على أسباب وهمية أخرى حتى يستطيع التعايش مع الفشل. و هنا يظهر أهمية الإعداد العقلي و التفاعل الفكري و دوره الرئيسي في مواجهة غموض المستقبل.
ماهو إذا المطلوب من الإنسان ليصل إلى السعادة؟ قد يفتري مغرضًا أو يظن جاهلًا أن الهدف هو التقشف و الزهد و التصوف و ترك الدنيا بما فيها. نقول ليس هذا هو الحل. إن الثنائية الفكرية التي إعتدنا عليها تفرض علينا دائما إما الشئ أو عكسه. و لكن العقل الحكيم يدرك أنه في معظم المواقف يوجد الاختيار الأمثل و هو الإعتدال. لا يمنع العقل الجسد من الترفه و اللهو و لكن لا ينبغي للجسد أن يمنع العقل من الترفع و التفكر. أذكر هنا مقولة حكيمة للحكيم أرسطو طاليس معلم الإسكندر الأكبر حيث يقول “نحن نعرف أنفسنا بما نفعله مرارًا و تكرارًا و عليه فإن الإتقان ليس موهبة ولكنه عادة”. علينا أن نعود أنفسنا على النظام الحياتي المتزن بين العقل والروح في ناحية و الجسد والشهوة في ناحية أخرى. لا يظن المرء بالله الظنون أنه خلقك للزهد و التقشف و لكن خلقك المولى جل و علا ثنائه لكي تستمتع بكل الحياة دون إفراط و لا تفريط.
و عليه تلك بعض الخلاصات التي نخلص لها من بحثنا في التفاعل الانساني و ننصح بها أنفسنا قبل الناس و الشباب قبل الكهول و الشيوخ. نقول أنه ينبغي على تجمعات الشباب أن تفسح للعقل و الروح مكانًا في جدولها الزمني. كما نجتمع لمشاهدة الأفلام و لعب الألعاب لماذا لا نجتمع لمطالعة كتب الفكر و الأخلاق و العلم و التاريخ؟ لماذا لا نجتمع للدعاء و قراءة الذكر الحكيم؟ لماذا لا نخصص وقتا في يومنا لنعين بعض على الخير مثل المذاكرة و التدارس و التصدق و العمل الخيري و تلخيص الكتب و الرحلات الثقافية و التعليمية؟ لماذا لا نعطي بعض الوقت لنقد الواقع الفكري و الموروث الاجتماعي الفاسد و مقارنته برأي الحكماء و الفلاسفة؟ هل الموروث الفكري و الاجتماعي كله صحيح؟ قطعا لا، هناك به خلل كبير و عيب كثير. لماذا إذًا لا يصدر من جيلنا نقد بناء و إرادة عقلية و إنسانية حقيقية لتغيير واقعنا المرير وفق التجارب السابقة للحكماء و الفلاسفة. نحن لم نرث السيء و المعيوب فقط. إن إرث بلادنا و حضارتنا عظيم و كبير و إرث الإنسانية عظيم و كبير أيضا و لكننا نختار أن نتغاضى عن الموضوع و التفكير فيه و نختار أن نعيش كالقطيع دون أن نغير في واقعنا ثم نتلاعن و نتناقم على بعضنا حينما ندرك الخسارة الفادحة في النهاية. دعونا نغلق عقل التلفاز قليلًا و نفتح عقولنا كثيرًا. نحن قوة كبيرة و لكن الموروث الاجتماعي منعنا من إدراك تلك القوة و أسقطنا داخل أنفسنا فسجننا في سجن لا جدار له و لا سقف. سجن الإنهزامية و التبعية العقلية و العدمية المادية كما حبس الصياد الذئب عند نصل السكين الدامي!!!
و في النهاية أقول إن هذه الدعوة ما هي إلا صرخة تصدر من الإنسانية المعذبة و طلب نجاة قد تمر تلك الصرخة علينا و نتجاهلها مثل غيرها. و لكن المأمول هو أن ننتفض لنلبي النداء و ننزع عنا أصفاد و أغلال الذل و التبعية لأفكار غير سليمة لا تسمن و لا تغني من جوع. و أختم هنا بمقولة حكيمة أخرى ” إن من ينتصر على شهواته أقوى ممن ينتصر على عدوه الخارجي لأن أقوى الحروب هي حرب الإنسان على نفسه”.
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.