الداروينية تطور أم اندثار
كم من الفظائع ارتكبت باسمك وتحت ستارِك..
لا، لست أتحدّث عن “الدين”، في الواقع أنا أتحدّث عن العلم! في هذا المقال سوف نلقي الضوء على دارون ونظريّة التطوّر وصولا الى الداروينية ، لنرى تلك الحقيقة واضحة جليّة .
من هو دارون؟
ولد تشارلز داروين في فبراير سنة 1809، في عائلة علمية حيث كان والده وجدّه من العلماء، وكانت عائلته من طائفة التوحيديين. تلقّى تعليما دينيا، ثم درس الطب لفترة وجيزة وكان يساعد أباه في علاج الفقراء، لكنه مال نحو دراسة التاريخ الطبيعي وتعلّم التحنيط. و كان الاتّجاه الرئيس لعلماء الطبيعة آنذاك تناول العلم من وجهة نظر دينية بحتة.
انطلق داروين في رحلة لقرابة الخمس سنوات على متن سفينة البيجل بغرض الدراسة، وكانت الرحلة من أهم محطات حياته. عكف داروين خلال هذه الرحلة على تدوين ملاحظاته وجمع العينات النادرة، وكان ينشر هذه النتائج في الدوريات العلمية، بينما كانت نظريّة التطوّر تتبلور في ذهنه تدريجيا. وبعد عودته من الرحلة بقرابة السنتين، وبعد قيامه بمساعدة علماء آخرين بالمزيد من الفحوصات والأبحاث على العينات التي جمعها، قام بتطوير نظريّة الانتخاب الطبيعي، لكنه لم يبح بها إلا للمقربين منه لما توقّعه من معارضة لها في الأوساط العلمية. إلى أن قام بنشر كتابه “أصل الأنواع” بعد 21 سنة من هذا التاريخ بعدما قوى نظريته بالأدلة وجهّز ردودا جيّدة على الانتقادات التي وجّهت لها.
على الصعيد الشخصي فإن هذه الفترة من حياة العالم دارون كانت تمثّل الابتعاد عن الرؤية أحاديّة المنطلق للعالم، من خلال الدين المسيحي، ودراسة الأحياء على حقيقتها عوضا عن ذلك. كان دارون منكبّا على عمله مما تسبب في زيادة الضغوط عليه ومرضه بصورة متكررة بمرض لم ينجح الأطباء في تشخيصه أو علاجه، وقد كان يخشى أن تصيب أبناءَه أمراضٌ وراثية بسبب كون زوجته ابنة عمه، ومن بين أبنائه العشرة مات اثنان، وأصابه موت ابنته “آني” ذات العشر سنين بأزمة نفسية وإيمانية عميقة، و مع إنّ داروين كان من الذين يأوّلون النص المقدّس ولا يتعاملون معه بحَرفيّة ألفاظه، فإنّه لم يجد في الفلسفة المسيحية إجابات مقنعة تردّ على الشكوك والتساؤلات التي ثارت في نفسه حول مبرر وجود الشرور والمعاناة سواءً في حياة البشر أو في الطبيعة وعدم صلاحية كل الأديان سواءً بسواء. كذلك من الواضح أنه عاش حياته في كفاحٍ مضنٍ ضد الرؤية التقليدية المحافظة -وثيقة الصلة بالدين المسيحي كما أسلفنا- لإثبات صحة نظريّته خلال هذه الفترة وبعدها.
نظرية التطوّر والاصطفاء الطبيعي:
لاحظ دارون أن الكائنات تتغير بنيتها وقدراتها لتناسب بيئتها، وأن الكائنات الأقل قدرة على التكيّف والتكاثر تنقرض بينما تستمر وتتطور الكائنات الأعلى في تلك القدرات. وقام عن طريق معاينته للخصائص البنيوية لكل للكائنات الحيّة المعروفة و الحفريات باستنتاج الأصول المشتركة لكل نوع ثم الأصول المشتركة لهذه الأصول وهكذا.
حقائق مهمة حول دارون و نظريّته:
1.نظرية التطور التي وضعها دارون تفسّر بشكل أساسي التطوّر التكيّفي، و لا تُعنى بالطفرات، كم إنّ دارون لم يطّلع على أبحاث مندل في الوراثة، و لا شيء من علم الوراثة الحديث كان معروفا في زمن دارون. مفهوم التطوّر بشكله الحديث جمع بين نتائج أبحاث دارون و مندل و غيرهم و استقر في سنة 1950.
2.دارون نفسه أصر على أن سياسة المجتمع يجب ألا تتبع مفاهيم الصراع والانتقاء الطبيعي، وعارض دارون العبودية وتصنيف البشر إلى فئات دنيا وعليا بحسب أجناسهم وأعراقهم.
3.بحلول عام ١٨٤٩م علق دارون على ذهاب أفراد أسرته إلى الكنيسة أيام الأحد بقوله” إنه من العبث الشك في قدرة الإنسان على الجمع بين الإيمان بالله ونظرية التطور في نفس الوقت” وكتب سنة 1879: “لم أنكر أبدًا فكرة وجود إله لهذا الكون، لكن اعتقد بأن مصطلح “اللاديني” كفيل بوصف ما أعتقد حاليًا
4.كان دارون كاتبا غزير الإنتاج، و كتابه الأشهر “أصل الأنواع” ليس كتابه الأوحد.
الداروينية الاجتماعية :
خرجت نظريّة دارون إلى الوجود وتم تطويرها في حقبة تبعت عصر التنوير في أوروبا، وفى البلد التى كان آنذاك أكثر البلاد الرأسمالية تقدماً: انجلترا. لهذا فقد تلقّفها الاستعماريوّن ليبنوا على أساسها شرعية عنصرية للإنسان الأوروبي الأبيض المتحضّر في حكم واستغلال الأجناس البشرية الأخرى الأدنى في سلم التطوّر، وتبرير التعامل بقسوة مع من يعانون من التشوّهات في المجتمع الأبيض نفسه، فكان لعلم تحسين النسل السلبي – بالتخلص من ذوى الصفات غير المرغوبة أو منعهم من التناسل – في أمريكا وكندا وأستراليا شعبية. تلقّف الداروينية أيضا من كانوا يدعون لتخطّي الديانة المسيحية بالكليّة، واستنتجوا منها أن المنظومة الحية تدير نفسها بنفسها وأن هناك أصلا مشتركا للإنسان والقرد وهو ما يخالف صريح كتابهم المقدس ويثبت أنه خرافي وموضوع. وأضافوا هذا لمجموع المسوّغات التي بنوا عليها حقّهم في تبنّي منظومة أخلاقية وقيمية مستقلة عن النص. جدير بالذكر أن جذور ما يسمّى الداروينية الاجتماعية تعود لما قبل إصدار دارون لكتابه “أصل الأنواع”، ومن أهم المؤلفات المؤصلة لها “التقدّم: قوانينه وأسبابه”(1857) للفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر، وهو من أوجد مصطلح “البقاء للأصلح” وليس دارون.
يمكننا هنا أن نرى بوضوح أن الوضع الأقرب للحدوث عند فشل الدين (لاختلال النص أو فشل أمانته فى القيام بواجبه) في دوره هو أن يبحث المتحرر من قبضته عن الأجوبة في العالم المحسوس، ويستقرئ من الملاحظة حقائق الأمور، لكن هل هذا يحقق السعادة والاتزان للأفراد والمجتمعات؟ كذلك فمما لا شك فيه أن التشابهات التي وجدها دارون في الأجناس حقيقية، وتدلّ على أن المخلوقات تنتمي لنسيج واحد. لكن هل هذه المخلوقات بالضرورة ناتجة عن التطور من كائن واحد؟
إن المنهج الذي يعتمد على الاستقراء في الوصول للحقائق وينفي وجود حقيقة فيما وراء ذلك نرى الخطيئة الكبرى له هنا بجلاء: إنها تحوّل الإنسان إلى حيوان آخر، وبدلا من أن تجعل على رأس المنظومة الحية -بحكم الذكاء- كائنا يحافظ عليها وينمّيها، فإنها تضيف إليها حيوانا مفترسا شرها ليصبح هو الخطر الأعظم الذي يواجه مستقبل الجنس البشري بل والحياة إجمالا على هذا الكوكب. إنّ الكائنات الأخرى لا تخلو من الذكاء، ويمكننا من خلال تأمّل التركيب المعقّد لمستعمرات النمل وخلايا النحل وتقسيم الأدوار في هذه المجتمعات من الحشرات – التى ينظر لها باستهانة – وغيرها أن ندرك ذلك، وهذه الكائنات قد تكون أكثر رشدا من البشر باتّباعها فطرتها وتنظيمها، بينما البشر يتمرّدون على فطرتهم وعلى النظام. عندما يسخّر الإنسان كامل مواهبه وقدراته لتقليد الطبيعة وامتصاص خيراتها فإنه يكون في منزلة من الاثنتين: منزلة القرود المقلّدين المحبّين للتحرر واللهو، ومنزلة الخنازير التي تلتهم بجشع كل ما تطاله مدمّرة البيئة. ” إن هم إلا كالأنعام، بل هم أضل سبيلا”
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.