مقالات

علمنة الإنسانية

يُعرِّف د. عبد الوهاب المسيري العلمانية فيقول :

هي رؤية شاملة للواقع تحاول تحييد علاقة الدين والقيم المطلقة والغيبيات بكل مجالات الحياة، ويتفرع من هذه الرؤية نظريات ترتكز على البعد المادي للكون وأن المعرفة المادية المصدر الوحيد للأخلاق وأن الإنسان يغلب عليه الطابع المادي لا الروحي، ويطلق عليها أيضًا ” العلمانية الطبيعية المادية ” ( نسبة للمادة والطبيعة).

نظرة الفكر العلماني للواقع

ينظر الفكر العلماني إلي الواقع نظرة ذات بعد واحد ألا وهو المادة فقط حتي الإنسان نفسه هو ذلك الجسد الذي يعد ترسًا موظفًا في ماكينة المجتمع الإنتاجية. وقيمته تستمد من تلك النظرة فعدا إنتاجيته المادية وما يملك من المال فلا قيمة له بعد ذلك، فإن نظرنا إلي بعض الشركات المنتجة لأي سلع استهلاكية هدفها الأول والأخير هو الربح المادي وذلك الأمر يقودها إلى دراسات إحصائية دقيقة على فئات المجتمع واستخدام تلك المعلومات في زيادة شريحة مستهلكيها والوصول إلي أعلي نسب بيع لسلعها، حتي أن جودة المنتج لديها أو تأثيره في المستهلك لا يهم طالما إن كان ذلك لن يؤثر بالسلب على أرباحها، حتي وإن سبب ذلك المنتج الكثير من الأمراض أو الأضرار الصحية على المستهلكين فلا أهمية لديها طالما عجلة تربحها تدور بشكل جيد.

حتي أن كبار السن يمثلون لدي أصحاب تلك الرؤية عبء كبير حيث يعدّوهم أفراد غير منتجة، ومن نظرتهم النفعية الموت لهؤلاء أنفع وأفضل لهم ولكنهم بدلاً من ممارسة تلك الوحشية الفكرية وإخراجها إلي مرأي ومسمع العالم يكتفون فقط بإرسال هؤلاء إلي دار مسنين، فلا معني للقيم الإنسانية في حقيقتها لدي أصحاب تلك الرؤية رغم وجود الكثير من الشعارات لديهم كالعدالة والتعاون والمحبة، ولكن كيف يكون لتلك القيم تطبيق حقيقي مع وجود قصور في الرؤية لدي أصحابها؟

فنظرتهم للإنسان بمنظور البعد الواحد لن يري إلا ذلك العامل الذي ينتج لنا أو ذلك المستهلك الذي نتربح منه، ولتلك النظرة اللاإنسانية والنفعية تقليل وتحقير من حقيقة الإنسان فتجعله إما حمارًا في ساقية الإنتاج لينتج أكثر أو سلعة مستهدفة للتربح من خلاله .

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الفكر المادي والثنائية الفكرية والعقائدية

وللأسف ذلك الفكر العلماني المادي ألقي بأمواجه على أوطاننا فأخرقها في ثنائية فكرية وعقائدية حيث فكَّك أي اعتقاد لدي شعوبنا التي تؤمن بالخالق العادل الرحيم وبأوامره بالقيم الإنسانية، ولكنه غرس بداخل ذلك الاعتقاد سرطانه الفكري النفعي والمادي محاولاً إعادة هيكلة المفاهيم وصياغة قيم جديدة، مستغلاً الجهل والاستثارة الشهوية وادعاءاته التسويقية لصور التحضر والحداثة .

فقد نجد في كل تفاصيل حياتنا آثار تلك الرؤية، بل ونجد أنفسنا مصابين بذلك الفكر ونتصرف وفقه في كثير من مواقف حياتنا.
فكيف كان موقف بائعي الكمامات حين حدثت أزمة كورونا؟ ألم نشاهد الكثير من السلوكيات الخالية من أي قيمة إنسانية؟

والنفعية البحتة التي احتكرت وتلاعبت بالسلع والأسعار لصالح مكسبها دون أن تراعي حاجة غيرها أو تنظر هل هي فعلاً تتربح بمعيار عادل أم تتحايل على التجارة وتتجاوز أي معايير أخلاقية، والأمر هنا ليس بنظرة يأس كلي لما أصبحت عليه مجتمعاتنا فكذلك نجد في الحوادث قلوب رحيمة تمد أيادي الدعم والمساعدة بكل حب ورحمة، ولكن المصيبة هو أن الانزلاق داخل تلك الأفكار دون معيار عقلي منطقي يميّز بين الموافق للقيم الإنسانية وما يخالفها يمثل خطورة كبيرة،

حيث يظهر لنا كمجتمعات مؤمنة بالخالق وبالقيم الإنسانية التي أمرنا أن نتعايش مع بعضنا وفقها ولكن داخل تلك التعاملات يظهر فساد الفكر المادي المُتمثل في بعض الإسراف في الاستهلاك وحب المفاخرة والظهور والجري وراء الشهرة والمال، فالفكر الفاسد الممزوج بالفكر السليم أشد خطورة من الفكر الفاسد كليًا والظاهر فساده، فإنه يحول من أتباعه معتقدين ملغي لديهم ميزان عقلهم ومختلط عندهم الصحيح بالخاطئ، بل والمستعمل للشعارات والقيم الفاضلة تحت سلوكيات بذيئة وسيئة فيحسب أنه يحسن الصنع وهو يفسد في الحقيقة.

العدو الأكبر للإنسانية

وقد يظهر ذلك بشكل واضح في ما تتم به عملية الزواج داخل المجتمع فنجد أنفسنا أمام مظاهر تفاخر و إسراف في المهور وحفلات الأعراس فقط لتظهر أصحابها بشكل مرموق اجتماعيا وفق معايير علمانية تصنف الإنسان وتمنحه القيمة بقدر ما يملك من مال أو مادة،

في حين أن الزوجين قد لا يحتاجان لكل ذلك الإسراف والأولي لهم بدلاً من ذلك استخدام تلك الأموال في أمور ضرورية وأساسية لبداية حياتهم، حتي أن البعض يقترض ويُدان ليظهر مثل غيره مما يدخل شباب المجتمع في مضيق خانق يعيقهم على بدء حياة أسرية وسد احتياجاتهم، وذلك بالطبيعي يأخذنا إلي زيادة في معدلات تأخر سن الزواج وبالتالي إلي تبعيات أخري قد تنشر في المجتمعات الكثير من الفساد.

وتلك فقط إحدي آثار هذا الفكر العلماني والذي إن أمعنا النظر؛ لوجدنا أثره ظاهر في أغلب السلوكيات التي يفعلها أي شخص بمجتمعاتنا.

مهما كان الأمر يضج بالتفاصيل والمواقف والأحداث التي تظهر تفشي ذلك الفكر واختلاف طبيعة السلوكيات لأفراد مجتمعاتنا؛ فالحقيقة هي أننا أمام فكر أصبح هو العدو الأكبر للإنسانية حيث يميت بداخل المجتمعات كل روابط الرحمة والعدل والخير ويُعلى من قيم التربح والقوة والشهوة والتسابق والتصارع؛ فيحول المجتمعات لصراعات أقرب ما تُوصف به هو صراع حيواني منزوع الإنسانية.

اقرأ أيضاً:

براديغما المجتمعات في عالم اليوم!

زميلي الصامت والمحرمات الفكرية

عدالة الفكر المادي الخادعة

محمد سيد

عضو بفريق بالعقل نبدأ أسيوط