نخبة المفكرين الجهاز المناعي للمجتمع
يتحاور صديقان من دفعة واحدة تخصص دراستهم علم الاجتماع عن ” دور النخبة الحقيقي تجاه المجتمع ” ، وبعد أن طال جدالهم حول ذلك الموضوع؛ دخل الدكتور إلى قاعة الدراسة فالتزم كل منهما الصمت، وبعد أن انتهت محاضرتهم ذهبوا إلي الدكتور يحاولون سؤاله لحسم تلك المسألة.
النقاش البناء
وبينما يتكلم أحدهم عن موضوعهم؛ ما يلبث الآخر إلا قليلاً حتي يبدأ مقاطعاً له، فابتسم الدكتور وقال لهم سنحسم سوياً مسألتكم الجدلية تلك ولكن أحتاج في البداية أن أفهم ما الموضوع الذي تتجادلون فيه، فإن استمر حواركم بنفس هذا الشكل فلن تنتهوا من جدلكم ولن أفهم أنا منكم ما الذي تتحدثون عنه أصلاً، وتلك قاعدتنا التي لابد أن نحرص عليها كما تعلمون،
إننا نحدد الموضوع الذي نتكلم فيه ثم نعرفه ونصيغ التصور السليم عنه لدي كل واحد منا؛ من ثم نبدأ باستمرار النقاش تاركين لكل منَّا مساحته الخاصة ليقدم رأيه ودليله ومن ثَّم يأخذ الآخر حق الرد، فتأسف كلا الطالبين ببسمة عريضة قائلين أنهم دائمًا ما تأخذهم الحماسة؛ فتنسيهم قواعد الحديث وحقوق الحوار لكل طرف حتي يصير حوارًا بناءً .
فبدأ أحدهم قائلاً يا أستاذنا قد تجادلنا عن دور النخبة الحقيقي في المجتمع ورأي صديقي أن النخبة ما هي سوي أشخاص يتبنون فكرة معينة أو حقائق ويسعون لنشرها ولكنهم بعد فعل ذلك لا مسؤولية لهم في مواجهة أي مشاكل تواجه المجتمع كما أنه يعتقد بأنهم لا دور تربوي يقع على عاتقهم .
فرد الدكتور متسائلا أي نخبة تقصدون؟
أنواع النخبة
فتعجب كلا الطالبين متسائلين هل هناك أنواع للنخبة؟!
فرد الدكتور قائلاً : أي نعم؛ فنخبة تطلق على الأشخاص الأفضل في مجالهم، وأنتم تعلمون كم تتعدد المجالات في المجتمع.
فاستمر تعجب الطالبين وقال أحدهم كنا نتكلم بشكل عام عن أي نخبة.
فرد الدكتور قائلاً : إن أردنا تحديد الشكل العام لدور أي نخبة فنحن نقول أنهم هم الأشخاص الذين يتمتعون بالمعرفة الكاملة بما يخص تخصصهم سواء كانوا نخبة مفكرين أو كتاب أو معلمين أو سياسيين أو مهندسين أو رياضيين أو أي متخصصين كانوا شرط أن يتمتعوا كذلك بالقيم والأخلاق السليمة.
فإن معيار النخبة ليس المقدار العلمي الذي يتمتع به بل كذلك القدر الخُلقي الذي هو عليه حتي نكون متأكدين من كونه فعلاً يقوم بما هو صواب، وليس بما يجلب له المنفعة.
تقدم أحدهم متسائلا : من هم النخبة التي توجه تلك النخب في رأيك أستاذنا؟
النخبة المفكرة
فأجاب الدكتور قائلاً : أتتذكرون سنوات تعليمكم السابقة حينما كنتم تدرسون اللغة العربية وبجوارها تدرسون قواعد النحو؟
فأجابوا : نعم
فتسأل قائلاً : ما دور النحو في رأيكم؟
فأجاب أحدهم : قال كان بمثابة شيء إضافي لا أهمية له في ذاته؛ إنما أهميته في إتمام تعلم اللغة العربية وضبطها منعاً من وقوعنا في أخطاء كتابة أو نطق.
فقال الدكتور : أحسنتم هو كذلك ، وتشبهه في ذلك نخبة المجتمع من المفكرين، فهم يقومون بضبط الفكر وإظهار الخلل فيه في أي علم كان فهم يستندون للمتخصصين ويرشدون الجميع بقواعد فكر سليمة نحو الحلول وفق قيم وأخلاق نبيلة حتي لا تتجاوز الأطر الأخلاقية وتغلب عليها المنفعة. فنجد التخصصات فاسدة لا تقدم حتي أقل واجباتها وذلك يشمل أي مجال كان سواء أطباء ، محامين، مسؤولين، معلمين ، ومهندسين ، فنانين ، وموظفين.
فكل من هؤلاء سيقدم واجبه في مكان عمله وفق معرفته التخصصية، ولكن هل هناك من يقوم بتقويم أي قصور فكري أو أخلاقي لديه أو على الأقل يقدمون له الدروس الأخلاقية والنصائح الفكرية؟!
دور النخبة المفكرة في المجتمع
لا يتوقف دورهم عند هذا الحد بل هو أكبر من ذلك فإنهم كالمرشدين لمجتمعاتهم بأكملها حين تمر بصعوبات وتحديات. هم الذين يأخذون بأيدي مجتمعاتهم ويخرجوهم من أزماتهم موجهين كل القطاعات ومرشديهم إلي ما هو واجب وما هو له الأولوية .
تساءل أحد الطالبين قائلاً : وكيف لهم بتلك المكانة؟
فرد الدكتور قائلاً إن تلك النخبة المفكرة في المجتمع كالمخ الذي يدير كافة أعضاء وأجهزة الجسم. هو لا يملك معرفة ووظيفة كل عضو وإنما هو الذي ينظم تلك المنظومة ويوجهها إلى الصواب.
فالأمر يكون بأنهم على معرفة كلية بالواقع بوجهيه المعنوي والمادي وبالخالق وبالإنسان. وهنا هم ليسوا متخصصين في تلك المعرفة فمثلاً جسد الإنسان له علومه التي يوجد من هم متخصصين فيها كالطب والأحياء والكيمياء وكذلك الواقع المادي فله علوم لها متخصصيها كالفلك والهندسة والفيزياء وغيرها
ولكن كالذي يري الصورة كاملة فيرشد من هو داخلها إلي سبيل خروجه وكيفية تجاوز معوقاته والتعامل مع صعوباته بل وكذلك يرشده على طبيعته الإنسانية وما يكدر عليه صفوها وما يعيقه فيها علي بلوغ سعادته وما يعينه فيها على بلوغ تلك السعادة.
هل مجتمعنا يتحلى بالجهاز المناعي؟
فمثلاً من المتعارف حاليًا لدينا في مجتمعاتنا انفتاحها علي مجتمعات أخري تختلف معها في المعتقدات والعادات والتقاليد ، رغم ذلك الاختلاف إلا أننا نجد الكثير من أبناء وطننا يقلدون تلك المجتمعات تقليد أعمي لا تعقل فيه ولا تأكد من حقيقة ما يتم تقليده.
وهذا يجلب لنا ظواهر كثيرة في مجتمعاتنا لم نكن نعهدها من قبل، فنجد صعود جيل من الفنانين يكونون بمثابة نخبة لهؤلاء الشباب وهم بأفكار مختلفة تماماً عن التي كانت عليها مجتمعاتنا في السابق، فيذهبون لعرض قضايا غير أخلاقية والحث علي الانفلات الشهوي والسعي إلي القوة والغلبة المالية وكأن السعادة في ذلك فقط،
فنجد كذلك انعكاس تلك الأمور في واقع المجتمع بارتفاع معدلات التحرش والجريمة والطلاق وغيرها من الأمور التي لم تكن أبداً بذلك القدر في مجتمعاتنا، إنما تبدو وكأنها سرطان قد أصاب المجتمع، وهنا يأتي دور النخبة من المفكرين الذين يقفون أمام تلك الأفكار والمواقف والأحداث كحائط صد يحمي المجتمع من الأفكار المغلوطة،
ويبين لهم ما هو خطأ فيها ويظهر لهم خطورتها المدفونة تحت المظاهر الخادعة، ويعيدون صياغة قيم وأخلاق أبناء مجتمعهم بل ويقومون بعملية تقويم لأي آفات أخلاقية تظهر بتفنيدها والوقوف علي أسبابها ومُسببيها، ومن ثم إيجاد الحلول وتقديمها للعامة، وكأنهم الجهاز المناعي للمجتمع حينما يدركون أي فكر ضار يقومون بحصاره ومن ثم يقومون بتحليله وإزالته.
ختاماً ما رأيكم أحبابي؛ هل مجتمعنا يتحلى بالجهاز المناعي أم أنه في حالة حرجة ويحتاج لدخول غرفة العناية المركزة؟