“الإنسان” ذلك الكائن الأخلاقي
ليس هناك شك في أن الإنسان هو الكائن الأخلاقي الوحيد في هذا العالم، حتى أنه يمكن إضافة مع التعريف الفلسفي التقليدي للإنسان أنه «حيوان عاقل» بتعريف تكميلي بالخصائص التي لا يشترك فيها مع الإنسان كائن آخر، ألا وهي خاصية الأخلاق والمسؤولية الأخلاقية، مما يستوجب معه تعريف الإنسان بأنه «الكائن الاخلاقي»، أليس هو وحده من يتحمل المسؤولية وتجربة التمييز ثم الاختيار بين الخير والشر؟ أليس منوطا بالعقل نفسه أن «يعقل» ويمنع الإنسان من النزول إلى درك البهيمية وحضيض الأنعام كي يرقى إلى رتبة القيم الأخلاقية التي تصير وحدها علامة على «إنسانية» صاحبها؟
أبرز ما يميِّز الفعل الإنساني
ذلك ما يجعلنا نؤكد أن أبرز ما يميِّز الفعل الإنساني عن مرتبة السلوك الحيواني قدرة الإنسان على معرفة الواقع والتعامل مع الطبيعة بـ«ثقافة» وقيم فكرية اعتُبرت دوما أساسا في التمييز والفصل بين المرتبة الحيوانية الدنيا ومراتب الإدراك العقلي، الأمر الذي يجعل من النشاط العملي والممارسة الإنسانية ليس مجرد «سلوك» خاضع لقوانين الطبيعة وللفعل وردّ الفعل وللإشباع الغريزي،
بل إنه سلوك يرقى إلى مستوى العمل، بفضل تلك القدرة التي يتفرد بها الإنسان، عمل أو ممارسة تستهدف خَلق نظام من المعارف والقيم الحضارية، أي نظام من المقاصد الأخلاقية الضابطة لذلك العمل والسلوك الإنساني، من ثَمّ وجب اعتبار الممارسة الأخلاقية تتويجا للعمل وللتجربة الإنسانية، وتمييزا فاصلا بين هذه التجربة وبين حضيض المرتبة الحيوانية،
وعلى حد قول الفيلسوف أبي الحسن العامري (381 هـ) «العلم بداية العمل، والعمل تمام العلم»، ولذا لا يمكننا إلا أن نؤكد مع فيلسوف المنطق والأخلاق طه عبد الرحمن أن «الأخلاقية هي وحدها التي تجعل أفق الإنسان مستقلا عن أفق البهيمية، والعقلانية التي تستحق أن تُنسب إليه ينبغي أن تكون تابعة لهذا الأصل الأخلاقي».
التعامل الأخلاقي في الأزمات والكوارث
ولنا في حسن الخلق الإنساني العديد من الشواهد والأدلة التي سطرها المصريون مع بعضهم وقت حدوث الأزمات والكوارث، فأقدار الحياة بحلوها ومرها لا تتوقف، وكذلك أخلاق المصريين التي لا تنضب أبدا ودائما ما تظهر معادنهم وأصولهم في أوقات الأزمات والمحن التي تشهدها البلاد،
نذكر منها ما حدث مؤخرا في حادثتين كان لهما أكبر الأثر في نفوس الأفراد في المجتمع المصري، وهما حادثة قطاري سوهاج وحادثة انهيار عقار جسر السويس، واللذان راح ضحيتهما عدد لا بأس به من الأشخاص، نسأل الله العلي القدير أن يرحمهم وأن يدخلهم فسيح جناته وأن يعوض أسرهم وذويهم خيرا، وأن يتم بالشفاء العاجل على من أصيب أيضا خلال هاتين الحادثتين اللتين تألم لهما كل مصري.
حادثة قطاري سوهاج
ففي الأولى قد بادر المصريون بإطلاق الدعوات على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة لإنقاذ ضحايا القطارين من المصابين والذين يحتاجون لتبرع عاجل بالدم، وأعلنوا عن المستشفيات والأماكن التي يوجد بها مصابون وتحتاج لتبرع فوري بالدم، وانتشرت الدعوات كالبرق بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي خاصة “فيسبوك” ولاقت قبولا كبيرا، وتحديدا الدعوات التي أطلقها القريبون من موقع الحادث من أبناء محافظة سوهاج.
وفي مشهد يعكس شهامة المصريين، فقد لُبيت على الفور تلك الدعوات وتوافد عدد كبير من طلاب جامعة سوهاج على المستشفى الجامعي للتبرع بالدم لصالح مصابي القطارين، مما يشير إلى تلاحم أبناء الوطن ومساندتهم لبعضهم وقت حدوث الأزمات والشدائد.
حادثة انهيار عقار جسر السويس
أما الثانية وهي انهيار عقار جسر السويس حيث كان يضم وحدة سكنية لعروسين خسرا كل متعلقاتهما في الحادث، لينتفض المصريون ويدشنون مبادرة «التحدي»، لتجهيز شقة العروسين من جديد، ويستجيب العشرات للمبادرة والتحدي، للمساهمة في إعادة تجهيز ما خسره هذين العروسين، وهذا يشير أيضا على أن الإنسان لديه حسن الخلق فطريا.
ولكن هناك عدة عوامل وأسباب مرتبطة بوجود أزمة في الأخلاق لدى البعض منها ما يلي:
- القصور في التربية الأسرية التي تبدو في التساهل أو اللا مبالاة أو الانشغال عن تربية الأبناء، خاصة في المرحلة العمرية المبكرة.
- وسائل الإعلام تعد إحدى العوامل المؤدية إلى إضعاف السياق الثقافي والقيمي، حيث يعمل الإعلام بوسائله المختلفة على نقل تيارات وأفكار وصور من الخارج قد لا تتلاءم مع نظائرها المحلية، ومن ثم يوجد تناقض أو عدم تكامل في لغة الثقافة والقيم.
- القصور الواضح في الدور التربوي للمدرسةفي غرس القيم الخلقية في نفوس النَّشْء.
- إبعاد الأخلاق والسلوك عن الدين يعتبر حرمانًا لها من الإطار المرجعي الثابت، فقد أصبحت الأخلاق تقوم على المكاسب المادية وتبادل المنافع، وليس على الحب والتقدير والوفاء والتناغم الخلقي والروحي.
- سوء الأحوال المعيشية والفقر والجهل والمرض والبطالة لدى بعض الأشخاص وعدم حرصهم على العمل في الوظائف المتاحة في المجتمع.
- عدم وضوح الأهداف السامية أو الشعور بالمثل والأخلاق الإسلامية، وأصبحت الأهداف فقط رفع مستوى المعيشة والتقدم الاقتصادي.
- ضعف الإحساس بالواجب تجاه الغير والانطواء على الذات أو الأسرة.
- تغيّر مفاهيم أخلاقية كثيرة عند بعض الناس.
ولمواجهة العوامل سالفة الذكر يجب تطبيق ما يلي:
التنشئة الاجتماعية السليمة: يتولى رعاية الطفل منذ ولادته، مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي تستخدم شتى طرق التعليم لإكسابه القيم الخلقية من خلال العديد من الأساليب منها:
القدوة الحسنة:
للقدوة الحسنة أهميتها البالغة في تأديب الأطفال وذلك لأسباب عديدة أهمها:
- اتباع حاجة الطفل وميله الفطري إلى الاجتماع بغيره ومحاكاته وتقليده فيما يصدر عنه من أقوال وأفعال.
- أن مستوى الفهم لدى الأطفال أدنى بكثير منه عند الكبار، فتبقى الرؤية بالعين المجردة لواقع حيٍّ أقوى أثرًا في نفس الأطفال من التوجه بالوعظ والقول.
- أن الطفل يشعر بضعفٍ إذا قارن حاله وقدراته الضعيفة بجانب والديه، أو غيرهم ممن هم أكبر منه.
- أن القدوة الحسنة المتحلية بالمبادئ والفضائل تعطيه قناعةً بأهمية هذه الفضائل وضرورة التحلي بها.
الموعظة والنصح:
ويكون النصح رقيقًا وبأسلوب هادئ بسيط يميل إلى إقناع الطفل، وعرض أمثلة تكشف له وجه الحق الذي لا يعرف.
الأسلوب القصصي:
أجمع المربون على أن القصة هي أكثر أنماط الأدب حيويةً وامتلاءً بالصور الحسية للأطفال وأقواها جاذبية لهم ومتعة، فالقصة تستهوي الطفل في سن مبكرة، وتظل متعة الاستماع إليها نامية في نفسه حتى بعد مرحلة المراهقة، وهي مزيج من الحوار والأحداث والترتيب الزمني مع وصف للأماكن والأشخاص والحالات الاجتماعية والطبيعية التي تمر بشخصيات القصة، وهي قادرة على تأكيد الاتجاهات المرغوبة لدي الطفل وترسيخ القيم المعنوية، وذلك عن طريق استثارة مشاركته العاطفية لنماذج السلوك التي تقوم القصة بتقديمها، وللمواقف التي تصورها.
الممارسة العملية:
يَشترِط القرآن الكريم أن يكون العمل قرينًا للعلم، إذ أن أخلاق الإنسان وبناء علاقاته الاجتماعية لا تقوم بالوعظ وحده، ولا بالحفظ وحده، بل تحتاج إلى أفعال يمارسها الإنسان لتتكون أخلاقه عمليًا، فالتربية تكون فعالة إذا ارتبطت بأنماط سلوكية يمارسها الطفل، ولا سيما السلوكيات المرتبطة بالدين لغرس الأخلاق الإسلامية في الأطفال، ويجد المربي في الفرائض الدينية فُرصًا مواتية للتربية الخلقية للطفل وتوجيهه نحو الأهداف السامية.
ضرب الأمثال:
يفيد استخدام هذا الأسلوب التربوي كثيرًا في تربية الأطفال، وذلك لأن مدارك الطفل تقف عند الأمور الحسية، فلا يقوى على فهم المعاني الكلية فضلًا عن التأثر بها في مراحل طفولته الأولى، ولذلك كان البدء مع الطفل بالمحسوسات والانتقال تدريجيًا إلى المعنويات هو ما يحتاجه الطفل لنموه العقلي السليم، وهذا الأسلوب يحقق ذلك.
الثواب والعقاب:
الثواب والعقاب من الوسائل المهمة في تربية الطفل وتهذيبه، فمن المألوف أن المربين من معلمين ووالدين وقادة يثيبون على السلوك الصحيح أو المرغوب فيه، ويعاقبون على السلوك الخاطئ أو غير المرغوب فيه، وهم يهدفون من ذلك التحكم في السلوك حتى تتكرر وتتوافر أنماط السلوك المرغوب فيها في المستقبل، وتتلاشى الاستجابات غير المرغوب فيها أو تزول.
الحوار والمناقشة:
من الأساليب التي تقوم عليها التربية الخلقية، أسلوب الحوار والمناقشة وأسلوب الإقناع والاقتناع عن طريق العقل والمنطق، ويتضمن أسلوب الحوار والمناقشة في التربية الخلقية ضرورة تعريف الناشئة بالأساس العقلاني والمنطقي لأي قضية مطروحة أمامهم، وألا يرددوا المعلومات ترديدًا أعمى دون فهم لمضامينها الحقيقية أو دون إدراكٍ لارتباطها بواقعهم الفردي والاجتماعي، كما يجب أن تُتاح لهم الفرصة للمناقشة الجادة والبناءة التي تحلل أبعاد الموضوع المطروح للمناقشة وتلقي الضوء على جوانبه.
اقرأ أيضاً:
الواجب الأخلاقي ودلالاته عند إيمانويل كانط
لا تشرق شمس حضارة إلا بالأخلاق
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.