حين يلتقي الصديقان!
مشهد يمكن أن يتكرر في أي مكان وزمان، ينطق بصدق عما تقيمه السياسة من حواجز بين البشر، بين الأصدقاء، وربما بين من خرجوا من رحم واحد! « جاي بورميو» Guy Burmieux و«جان يوفون أنتيجناك» Jean-Yvon Antignac، صبيان يلهوان سويًا، يدرسان، يقضيان أيامهما معًا، لا يفترقان تقريبًا، حتى بلغا المرحلة الثانوية.. هُنا تحتم عليهما أن يفترقا بعد صداقة وطيدة.. أحدهما (جاي) التحق بالشركة الفرنسية المتحدة كعامل، بينما شق الآخر (جان) طريقه ليلتحق بسلك الشرطة، وأصبح عضوًا في قوات مكافحة الشغب الفرنسية.
لقاء الصديقين
في السادس من أبريل سنة 1972 قام عمال الشركة الفرنسية المتحدة ببلدة «سانت بريوك» Saint-Brieuc بفرنسا بإضراب، وتجمهروا أمام الشركة للمطالبة بحقوقهم. في ذلك الوقت، وصل أمر إلى فرقة مكافحة الشغب المنضم لها «جان» بالتصدي لتظاهرة قام بها عمال بالشركة المتحدة في «سانت بريوك»، عملٌ عادي لـ «جان»، يقوم به دائمًا.. أعد عدته وتوجه بسيارة الشرطة مع بقية أفراد فريقه إلى مكان المظاهرة، ووقف حسب التشكيل أمام العمال المُضربين.. كان «جاي» يحمل لافتة ويهتف معهم، لكنه لمح بين الجموع ووسط رجال الأمن ذوي الياقات البيضاء وجهًا يعْرفه، إنه «جان»!
When your childhood friend comes at you in riot ear
هُنا اخترق «جاي» الجموع ركضًا، وجذب صديق طفولته من بين رجال مكافحة الشغب، وأمسكه من ياقته وقرّبه له.. وبمشاعر اختلط فيها اشتياق الصديق بثورة المُتظاهر صرخ باكيًا: «هيا، تقدم واضربني كما أُمرت»، لكن «جان» لم يستطع أن يُحرك ساكنًا!
الموقف الممتلئ بالمشاعر المُختلطة، رواه المُصور «جاك جـورميلين» Jacques Gourmelen، الذي كان يغطي التظاهرة لصحيفة «كويست فرانس» والتقط الصورة. انتصرت الصداقة، وعاد الصديقان إلى صحبة افتقداها طويلا، حتى فرَّق بينهما موت أحدهما! القصة جديرة بالتأمل، لا سيما في تلك اللحظات التي تشاهد فيها شرطيًا يتصدى لمُحتج (أيًا كانت ملابسات الموقف)، فلربما جمع بينهما يومًا نقاء الطفولة أو الصداقة!
أهمية الصداقة
يتفق الفلاسفة وعلماء الإدراك على أن الصداقة عنصر أساسي لسعادة الإنسان، ولكن بعيدًا عن التعريفات الأكاديمية الجافة، من قبيل كونها «علاقة ترابط طوعي بين شخصين، تهدف إلى تسهيل الأهداف الاجتماعية والعاطفية، وتتضمن أنواعًا متفاوتة من الرفقة والمودة والمساعدة المتبادلة والمشاركة الفكرية»،
فإن الصداقة الحقيقية تعلو فوق مجرد كونها موقفًا تقييميًا كحالة الحب التي قد تكون من طرف واحد، لتغدو موقفًا تلاحميًا بالضرورة، يتجاوز به الطرفان علاقات الاهتمامات المشتركة، مزاجية كانت أو رياضية أو فنية أو اقتصادية أو سياسية، كما يتجاوزان به علاقات المصالح المتبادلة، وعلاقات الزمالة التي تفرضها صُحبة العمل أو الدراسة، إلى نوعٍ راقٍ من أنواع الفضيلة، يتجلى في مقولة أبي بكر الصديق رضي الله عنه «فشرب حتى رضيت».
يقول مصطفى صادق الرافعي: «واعلم أن أرفع منازل الصداقة منزلتان: الصبر على الصديق حين يغلبه طبعه فيسيء إليك، ثم صبرك على هذا الصبر حين تغالب طبعك لكيلا تسيء إليه. وأنت لا تصادق من الملائكة، فاعرف للطبيعة الإنسانية مكانها، فإنها مبنية على ما تكره، كما هي مبنية على ما تحب، فإن تجاوزت لها عن بعض ما لا ترضاه ضاعفت لك ما ترضاه فوفت زيادتها بنقصها».
اقرأ أيضاً:
الصديق وثالث المستحيلات ليس بمستحيل
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.