بطون تكاد تنفجر من الجهل!
«صديقي لا تأكل نفسك»..
عنوان كتاب ممتع أعدت قراءته مؤخرا للكاتب الصحفي «عبد الوهاب مطاوع»، حيث يورد في الفصل السادس منه، والذي جاء تحت عنوان «ولكنها تدور» قصة حكيم صيني زار الهند منذ ألف وثلاثمائة سنة، وفيها شاهد رجلا يطوف بالقرى مرتديا حزاما من النحاس فوق بطنه، وواضعا فوق رأسه مشعلا مضيئا، فإذا سُئل عن سبب تجوله بهذه الهيئة الغريبة قال: “إن عقلي عظيم إلى درجة أخشى معها أن تنفجر بطني من المعرفة إذا لم أرتد هذا الحزام، أما المشعل فإني أضعه فوق رأسي لأبدد به ظلام الجهل!”.
يتذكر «عبد الوهاب مطاوع» هذه القصة ويُغالب نفسه لكي يمنعها من الضحك، ويتذكر أيضا مقولة «سقراط»: «إنني أعرف شيئا واحدا، هو أنني لا أعرف شيئا»، ومقولة الإمام «أبي حنيفة النعمان» حين سُئل ذات مرة: «هذا الذي تفتي به، أهو الحق الذي لا شك فيه؟»، فأجاب متحيرا: «والله لا أدري، لعله الباطل الذي لا شك فيه!»، ومقولة الإمام «الشافعي» الذي سُئل مرة عن مسألة فقهية فسكت، فقيل له: «ألا تجيب رحمك الله؟»، فقال: «والله لا أجيب حتى أعرف هل الفضل في سكوتي أم في جوابي».
أقوام بطونهم تكاد تنفجر من الجهل
لكني في الحقيقة أغالب نفسي لكي أمنعها من البكاء كلما قرأت هذه القصة، ورأيت أناسا من حولي (في الفضائيات، ومواقع التواصل الافتراضي، والتواصل الفعلي) يُزينون للناس أن بطونهم تكاد تنفجر من المعرفة، في حين أنها تكاد تنفجر من الجهل!
هؤلاء –على حد تعبير «عبد الوهاب مطاوع»– هم الذين كذَّبوا الأنبياء بلا استثناء من قبل، وهم الذين كذَّبوا «جاليليو» حين قال إن الشمس هي مركز الكون، وهم الذين كذَّبوا الفلاسفة وحاكموهم، وهؤلاء أيضا الآن هم الذين أسقطوا عالمنا العربي في حظائر الجهل والتخلف، وهم الذين شوَّهوا وعي العامة والدهماء، وهم الذين أخرجوا جامعاتنا من قوائم التصنيفات الدولية، وهم الذين نشروا الفقر والأمراض، وهم الذين دعَّروا الإعلام والفن، هؤلاء هم الذين أفسدوا حياتنا وزيَّفوا تاريخنا وضيَّعوا مستقبلنا..
هؤلاء من حولك في كل مكان.. يعرفون أنهم كاذبون، مراؤون، منافقون، متسلقون وفاسدون.. ويعرفون أننا نعرف، ونعرف أنهم يعرفون أننا نعرف، ومع ذلك يتنطعون، ويخرجون في زينتهم بدُثر التقوى والإخلاص والوطنية، وإذا لقوا الذين يعرفونهم قالوا إنا مضطرون، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون، الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون!
هم العدو فاحذرهم!
يُروى أن قوما حضروا ذات يوم إلى الجاحظ، فخرج إليهم غلامه، فسألوه عن سيده فأجابهم: “إنه في الدار”، فقالوا له: “ماذا يصنع؟” فقال: “إنه يمارس الكذب!” فقالوا له: “كيف ذلك؟” فقال: “إنه ينظر في المرآة مليا ثم يقول: أحمدك ربي لأنك صورتني جميلا!”
لعل الجاحظ لم يكن كاذبا بقدر ما كان مصدقا لنفسه، وهو في ذلك لا يؤذي أحدا، ولا يشوه واقعا، ولا يفرض على الناس أن يهيموا إعجابا بالجمال الزائف لصورته، لكن المشكلة الحقيقية فيمن يظنون أنهم أصحاب عقول راجحة تثمر أفكارا مبدعة، ويصدقون أنفسهم، فيخرجون علينا عبر وسائل الإعلام بوجوه يكسوها الغباء والجهل!
يعلنون عن أنفسهم كمثقفين، ومفكرين، ومحللين، وخبراء، ودعاة.. إلخ. والمشكلة الأخطر أنهم يجدون من يصفق لهم وينزلهم ما لا يستحقونه من منازل.. هم العدو فاحذرهم!
اقرأ أيضاً:
حياة الفلاسفة: رَفَه الجهل ومعاناة الحكمة
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.