سارق ومسروق – الوجه الثالث عشر
أربعون وجها للص واحد "متتالية قصصية"
طرأت على رأس السارق فكرة، فمضى إلى تنفيذها دون تردد، وهو يظن أن كُلفتها بسيطة. هكذا اعتقد في البداية، لكنه حين مضى في طريقه اكتشف كم كان خاطئا! ابن السارق وابنته يعرفان جيدا المسروق، كان بالنسبة لهما بمنزلة الجد العطوف. إنها صورة لم يصنعها كلام أبيهما في صغرهما فحسب، بل أيضا تصرفات المسروق معهما، والذي كان الابن يقول عنها دوما: “رجل كميزان الذهب”.
قال هذا بعد أن تابعه في أيام نضاله ضد الاستبداد والفساد، وقبلها لم يكن يحلو له سوى أن يناديه بــ “جدو الطيب”، فكم مرة فتح له ذراعيه وقلبه وأنصت إليه، ونصحه بما يجب على شاب طموح أن يفعله.
كان هذا يجري بينما الأب _وهو السارق_ غائب هناك، حيث الخلاء المفروش بالرمل والحصى، وكم من مرة قال الأب نفسه لابنه: “في غيابي يمكنك الذهاب إلى جدك”.
المسروق يفضح السارق
لم يكن بوسعه وقتها أن يضيف كلمة “المسروق” إلى كلمة “جدك”، إذ لم يخطر بباله في هذا الزمن البعيد أنه سيستحل منه هذا المبلغ الكبير. لكن غروره أنساه كل هذا، وذهب إلى ابنته وابنه، وهو يقول لنفسه: “لا بد أنهما سيكونان معي”.
لم يكن يدري وقتها أن ما سرقه لم يعد سرا بينه وبين المسروق، بل شاع خبره حتى وصل إلى الابن والابنة، وأنهما لم يعودا صغيرين ينصتان إليه في صمت، وليس لهما من سبيل سوى طاعته.
كان في إجازاته يوقفهما أمامه، وكأنهما مثل الذين لا يملكون سوى الانصياع له هناك حيث الخلاء، يتكلم هو فيهزون رؤوسهم، ويجهدون أنفسهم في سبيل ألا تفضحهما العيون. اعتاد هذا فلم يدرك أن الابنة والابن ليسا هنا في خلاء، وأن هناك من رسم لهما معالم طريق مختلفة، ومنهم المسروق نفسه.
لقد وصل المسروق إليهما قبله، وحين حدثهما عن سرقة أبيهما صدقاه دون جدال، فكيف يكذبانه وهما لم يعهداه أبدا يقول غير ما جرى وما يعنيه؟
دعاهما الأب السارق إلى لقائه، فجاءاه وهما يظنان أن ما يريد الحديث فيه لا يزيد عما يدور في رأسه. تأكد له هذا حين اختلى بهما، فهو ما كاد ينطق بأول كلمة، حتى رفعا يمناهما، يشيران إليه بالتوقف، ففعل، وتطلع إليهما في دهشة، بينما يصل إلى سمعه أول الكلام: “سمعنا ما جرى ونصدق جدنا”.
تكذيب الأولاد لوالدهم السارق
وخزه ما سمع، لكنه راهن على أن بوسعه إجبارهما على قبول ما يريد. نظر إليهما في حدة، وصرخ: “أنتما لا تعرفان شيئا”.
قال له ابنه: “نعرف الكثير”.
ملأه عجب، وتاه شاردا في الذي وصل إليهما، وسأل نفسه عن الباب الذي دخل منه ما جرى إليهما، لكنه لم يفقد الأمل في أن يعبر لهما عما يريده، فقال لهما في تودد: “الأبناء البررة يصدقون أباهم”.
كأنه لم يقل شيئا، فهما يعرفان جيدا أنه يكذب، فطالما فعل هذا أمامهما، حتى في الأيام التي لم يكونا يريانه فيها إلا قليلا. وكان بوسعهما أن يلتزما الصمت، لكنهما تيقنا من أن ما فعله لا يمكن السكوت عليه. سأله ابنه: “في كل وقت كنت تراه رجلا عظيما، فما الذي جعله فجأة ليس كذلك في رأيك؟”.
كان السؤال عن المسروق، الذي مكنه جميل صنعه من أن يجد من يدافع عنه في بيت سارقه، فجاءت إجابة الأب متلعثمة. ارتعش جسده، وتراقصت الحروف على لسانه، وراح يرغي ويزبد، بينما الابن والابنة ينظران إليه في أسى وأسف، فلما انتهى، قال له ولده: “لم يقل جدنا طوال حياته سوى الصدق”.
وقتها رأى صورة المسروق تزحف على مهل حتى تحتل كل وجه ابنه الذي يجادله، رغم اختلاف الزمان والمكان والأحوال والملامح.
اقرأ أيضاً:
الوجه الأول، الوجه الثاني، الوجه الثالث، الوجه الرابع
الوجه الخامس، الوجه السادس، الوجه السابع، الوجه الثامن
الوجه التاسع، الوجه العاشر، الوجه الحادي عشر، الوجه الثاني عشر
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.