الكندي فيلسوف العرب والمسلمين – الجزء الثاني
توقفنا في المقال السابق بالأمس عند الحديث عن مسألة التوفيق بين العقل والنقل، أو الفلسفة والدين، وتعرفنا على وجهة نظر الكندي وأنه ليس ثم تعارض بينهما اللهم إلا اختلاف في منهج رجل الدين والفيلسوف في وصولهما إلى كنه الحقيقة، لكن الغاية واحدة ألا وهي إصابة الحق.
ننتقل في هذا المقال إلى الحديث باختصار عن باقي فلسفة الكندي، وحديثه عن الإلهيات، وجود الله، وحدانيته، أدلة وجوده، صفاته، العالم هل هو حادث أي مخلوق؟ أم قديم قدم الذات الإلهية؟ وكذلك عن فلسفته الخلقية.
أدلة الكندي لاثبات وجود الله
قدم الكندي عدة أدلة أثبت من خلالها وجود الله تعالى، وإن كنا نرى أن الله تعالى واضح بذاته لا يحتاج دليلا على وجوده، فكيف يستدل على الكامل الله تعالى من خلال الناقص؟ إلهي كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟
ليس هذا وحسب، ولكن أليس عجزنا عن إدراكه إدراك؟ فالعجز عن الإدراك إدراك والخوض في الذات إشراك، وعقولنا قاصرة عن إدراك الحقيقة كاملة، لكنها سنة كونية، العقل بدوره يريد أن يبحث وينقب وهذا دأب وديدن الفلاسفة،
ليس الفلاسفة فقط بل الإنسان بما هو كذلك وبفطرته يحب أن يغوص في المجاهيل منقبا باحثا عن أصل الكون ومن منشئه وإلى أين هو صائر، وما مصيره، وما حقيقة العالم الآخر، وما حقيقة البعث، وغيرها من الأمور الما ورائية الميتافيزيقية.
قدم الكندي عدة أدلة أثبت خلالها وجود الله تعالى.
1- دليل الحدوث
أولها دليل الحدوث، أو الخلق، فالكون بكل ما فيه _عالم ما فوق فلك القمر وعالم ما تحت فلك القمر العالم الطبيعي_ حادث مخلوق، وبما أنه كذلك فلا بد من علة أوجدته وأخرجته من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل، هذه القوة علة قديمة هي الله تعالى.
2- دليل الوحدة والكثرة
وثاني هذه الأدلة دليل الوحدة والكثرة، فكل الأشياء التي نراها في هذا العالم إما وحدة وإما كثرة أو وحدة وكثرة في آن واحد، والكندي أبطل الافتراضتين الأوليتين، فيبقى الافتراض الثالث أن العالم به وحدة وكثرة،
وهذه الكثرة التي نراها تكون معلولة لبعضها البعض، أي نشأت عن بعضها البعض، ولا يمكن أن تتسلسل إلى ما لا نهاية ومن ثم ضرورة وقوفها عند علة العلل، مسبب الأسباب جميعها، العلة الفاعلة، العلة الواحدة، الله سبحانه وتعالى.
3- دليل العناية
أما ثالث هذه الأدلة فهو دليل النظام أو التدبير والعناية، فالعالم بكل ما فيه منظم بإتقان وإحكام، وجعل بعضه عللا لبعض لأكبر دليل على وجود المبدع المنظم الذي أحسن كل شيء خلقه.
يرى الكندي أن الله في العالم كالنفس في البدن، فكما أن النفس هي التي تتولى تدبير البدن بقواها المختلفة المنمية، الغازية، المتخيلة، العاقلة، كذلك الله سبحانه وتعالى هو الذي يتولى تدبير هذا الكون بكل ما فيه بنظام متقن وإبداع فريد لا يحيد ولا يميد قيد أنملة عن عناية الله تعالى، هذا عن أدلة وجود الله تعالى عند الكندي.
أدلة الكندي لاثبات وحدانية الله
الله تعالى واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فالله واحد بالذات واحد بالصفات، ولما كانت الوحدة أخص صفات الله ذهب الكندي يبرهن بطرق مختلفة على وجودية تلك الوحدة في الله ويوضح أنه لا تجوز فيه الكثرة،
لأنه ليس له صورة أو مادة أو كمية أو كيفية أو إضافة ولا موصوف بشيء من باقي الأمور التي تطرأ على المحدثات المخلوقات، ولا ذو جنس ولا فصل ولا يتشخص ولا يتجزأ ولا يتبعض، ولا ذو عرض ولا عمق ولا ارتفاع،
فالله منزه عن كل هذه الأشياء، وكذلك فالله ليس متحركا بل هو ثابت لأن كل ما هو متحرك يحتاج إلى من يحركه. فالله هو وحدة خالصة.
صفات الله عند الكندي
ومن الصفات الفلسفية التي أثبتها الكندي صفة الأزلية، ومعنى الأزلية أي أن الله تعالى أزلي موجود منذ الأزل، وليس محتاجا في قوامه ووجوده إلى غيره.
والأزلي هو ما لا يستحيل أو يتغير، بل هو تام وكامل الوجود، لأن الاستحالة تبدل وانتقال من حال إلى حال، والأزلي لا يطرأ عليه الفساد، والأزلي لا يتحرك لأن في الحركة تبدل، وللأزلي فعل خاص به هو الإبداع، والإبداع هو إيجاد الشيء من اللا شيء، أي إيجاد من العدم.
العالم هل هو حادث أي مخلوق؟
أثبت الكندي أن العالم حادث مخلوق، عن طريق فكرة التناهي، تناهي الأجسام والزمان والحركة، عن طريق تناهي جرم العالم، وبالتالي إثبات تناهي زمان العالم على أساس تناهي حركته.
يقوم هذا الدليل على مقدمتين أساسيتين هما استحالة وجود ما لا نهاية، فالخط المستقيم له طرفين بداية ونهاية، فليس ثم زمان ولا مكان ولا حركة بلا نهاية. أما المقدمة الثانية كل متناه حادث، وكل حادث لا بد أن يكون له محدث أحدثه، ومن هنا فالعالم حادث مخلوق.
فلسفة الكندي الأخلاقية ورؤيته عن الفضائل الإنسانية
أقام الكندي فلسفته الأخلاقية على فكرة السعادة التي من الممكن تحقيقها إذا حدث توفيق بين متطلبات الجسد ومتطلبات الروح.
يرى الكندي أن الفضائل الإنسانية هي الخلق المحمود، وهي تنقسم قسمين أحدهما في النفس، والآخر مما يحيط ببدن الإنسان من الآثار الكائنة عن النفس. عرف الكندي الفضيلة بأنها وسط وأطرافها مرذولة، وأعطى أمثلة على ذلك، فالشجاعة وسط بين طرفين مرذولين هما الجبن والتهور.
ولكن ليس معنى ذلك أن الفضائل دائما هي أوساط بين طرفين، لأن هناك فضائل لا يكون وسطها هو الفضيلة، مثل صفة العدالة.
رسالة الكندي في معالجة النفوس
للكندي رسالة في معالجة النفوس وكيف تصير سعيدة هي رسالة الحيلة لدفع الأحزان، وهو يعرض فيها لطب النفس ويفرقه عن طب الجسد ويبين أهمية طب الأنفس بأنه يعالج الأحزان باعتبارها آلام للنفس، والنفس هي المدبرة للجسد فكان علاجها أولى من علاج الجسد. وإذا ما تحقق علاج النفس وتهذيبها وترويضها على الفضائل تحققت السعادة للإنسان وتحققت حتى الصحة البدنية.
تلك هي فلسفة الكندي فيلسوف العرب الذي إن جاز لي القول فقد اقتفى الأثر اليوناني وظهر ذلك واضحا جليا عند حديثه عن فلسفة الطبيعة وحديثه عن تناهي الزمان والحركة، وكذلك عن طريق حديثه عن السعادة والفضائل والوسط الأخلاقي.
كذلك ظهر جليا لنا تأثر الكندي بموروثه العقدي في تعريفه للفلسفة، وكذلك في محاولة توفيقه بين الفلسفة والدين وإعلائه من شأن النبوة وأنها اصطفاء من الله تعالى وأن علومها وهبية علوم لدنية.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
اقرأ أيضاً:
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا