مقالات

قراءة في “دليل أكسفورد في الدين والعلم”[1]

في هذه القراءة

بادئ ذي بدء، اِعْلم أنني لم أرغب في عرض موضوع هذا الدليل “علاقة الدين والعلم” من منظوري الأكاديمي بوصفي باحثا في الدراسات الفلسفية التي تُعنى -من بين ما تُعنى به- بالبحث في هذه الإشكالية الشائكة، ولا من منظوري العقائدي الديني بوصفي مسلما تتسم علاقة الدين بالعلم في عقيدته بخصوصية متفردة تغافلت عنها الدراسات والرؤى المطروحة في هذا الدليل،

ولا من منظور انتمائي القومي بوصفي عربيا يُعَد نطاقه الجغرافي هو مهبط الديانات السماوية الثلاث من جانب، والذي يُعزى فيه -أكثر من غيره- ارتباط العلم بالدين إلى التسلح بـ”القوة” لا التسلح بـ”المعرفة”، من جانب آخر.

ومن هنا أقدم “علاقة الدين والعلم” -كما يطرحها مؤلفو هذا الدليل من زوايا متنوعة ومتعددة- بوصفها مبحثا معرفيا مستقلا وواعدا في الفكر الغربي، لا سيما الأمريكي. ومن ثم أُهدي إليك في قراءتي هذه عدة مفاتيح استرشادية أطمح أن تعينك على فهم موضوع هذا الدليل، وبيان ما غَمُضَ أو التبس في عنوانه والغرض منه.

“دليل أكسفورد في الدين والعلم”

هو أحد منشورات مطبعة جامعة أكسفورد، الذي صدر في عام 2006، محرره هو فيليب كلايتون أستاذ الفلسفة والدين بجامعة كليرمونت، بمساعدة زاكاري سيمبسون رفيقه في المنحة الدراسية بالجامعة ذاتها. عكف على تحرير هذا الدليل هيئة من الأكاديميين المشهود لهم بالخبرة والحنكة في مجال “الدين والعلم” لمدة ثلاث سنوات،

وهم: جون بوكينهورن John Polkinghorne أستاذ الفيزياء الرياضية بجامعة كامبريدج، وآرثر بيكوك Arthur Peacocke الكيميائي وعالم اللاهوت البريطاني، وإيان باربور Ian Barbour الفيزيائي وعالم اللاهوت الأمريكي، ونانسي مورفي Nancey Murphy أستاذة الفلسفة المسيحية بمعهد فولر بكاليفورنيا، وجيفري شلوس Jeffrey Schloss أستاذ البيولوجيا بكلية ويستمونت، كاليفورنيا، الذين بفضلهم جاء هذا الدليل في صورة أكثر شمولية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يتكون نص هذا الدليل من ستة وخمسين فصلا، مقسمة إلى ستة أجزاء، ويقع في 1059 صفحة. تتنوع تخصصات المسهمين وخبراتهم في هذا العمل ما بين أساتذة في الفلسفة وعلم اللاهوت، مثل: جوزيف براكين Joseph A. Bracken، ويليام دريز Willem B. Drees، وكارل جيليت Carl Gillett، وأساتذة في الرياضيات والعلوم الطبيعية، مثل: بيتر أتكينز Peter Atkins، سوزان باور براتون Susan Power Bratton، وبرنارد كار Bernard Carr، وأساتذة متخصصين في مجال “الدين والعلم” ذاته، مثل: جون هيدلي بروك John Hedley Brooke.

لماذا “الدين والعلم” وليس “العلم والدين”؟

للوهلة الأولى ربما يوحي إليك عنوان هذا الدليل “الدين والعلم” أنه كتاب في “الدين” وموقفه من تطورات العلم الحديث، مثل: نظرية التطور، والبيولوجيا الجزيئية، وفينومينولوجيا الأعصاب، أو ربما يوحي إليك -أيضا- أنه هجوم غربي مكرر على تراثنا الديني ودعوة لنبذه، أو على الأقل الانخراط في دعاوى فصل الدين عن الدنيا، بسبب كونه كتابا قد ألفه علماء ومفكرون غربيون.

ولا تكاد تمعن النظر في موضوعات هذا الدليل حتى يتبين لك أنه ليس هذا ولا ذاك. إنه -باختصار، وكما وصفه محرره فيليب كلايتون- دليل تعريفي بمجال بحثي معاصر قائم بذاته، له أسسه وموضوعاته ومقارباته وتداعياته، وهو مبحث “الدين والعلم”.

وفيما يتعلق بحساسية اختيار عنوان “الدين والعلم” بدلا من “العلم والدين”، الذي قد يمر مرور الكرام على بعض القراء، دون التفات إلى الفارق بين العنوانين، فقد تعلمت من دراساتي الأكاديمية أن عنوانات المؤلفات -لا سيما الغربية- لا توضع اعتباطا، وأن كثيرا ما يحمل العنوان إشارات للقارئ قد لا يصرح بها المؤلف على نحو مباشر.

ففي دراستي للماجستير حول العلاقة بين “المنطق والذكاء الاصطناعي”، أجد أحدهم -مثلا- يصرح في مستهل مقالته أن حديثه ينصب على علاقة المنطق والذكاء الاصطناعي، “وليس العكس”، وأن “الفرق كبير بين الاثنين”. وكذلك في ردي على حيرة أستاذي في السنة الأولى للدكتوراه بجامعة ليدز ببريطانيا بروفيسور بيتر سيمونز، حول سبب اختيار مؤلفي كتاب “المنطق واللغة والمعنى”Logic, Language And Meaning (1991) اسما مستعارا (Gamut)، الذي يعني في الإنجليزية “سلم النغمات”، وذلك بدلا من ذكر أسمائهم الحقيقية، وكان ردي حينها أنها ربما اُستعيرت للإيحاء بالتناغم الشديد بين المنطق-اللغة-المعنى ولو من منظور المؤلفين. ونال هذا التأويل استحسان أستاذي وأزال شيئا من حيرته.

دعنى أتحلل قليلا من الوعد الذي قطعته على نفسي في مستهل مقدمتي، وأدلي بتأويلي الشخصي لسبق كلمة “الدين” على “العلم” في العمل الراهن. إني أزعم أن الاعتقاد الديني أو الروحاني مكون أصيل من مكونات الوعي الإنساني: الفكري والنفسي والسياسي والاقتصادي والعسكري والاجتماعي والفني والثقافي والحضاري، بقصد أو بدون قصد، على نحو معلن أو ضمني.

ونحن بلا معتقد تعبدي -بمعناه الواسع الذي يتجاوز فكرة الإله- أشباه بشر. ولا أتصور أن يُنكر ذلك أحد، حتى من ينكرون حقيقة الدين أو الاعتقاد الروحاني. أضف إلى ذلك، تلك الأسبقية التاريخية للدين على العلم. بمعنى أن هذا الدليل يناقش علاقة العلم بالهندوسية التي نشأت 1500 قبل الميلاد، والإسلام خاتم الديانات السماوية الذي ظهر قبل 1441 عام، بينما ينصب جُل الحديث هنا على العلم في عصره الحديث.

وعلى هذا فالدين يشغل المساحة الأكبر فى كل من الوعي والتاريخ الإنساني فى مقابل العلم. بل قل -إن شئت-: إن الإنتاج العلمي الحديث أتى ممزوجا بروح الدين، خذ كبلر وجاليليو ونيوتن نموذجا. ولم يتجرد العلم من أي طابع ديني عقائدي إلا مؤخرا، كما يتضح لك في فصول هذا الدليل. ولعل هذا -في تصوري- ما يوجب تقديم الدين على العلم في أي طرح يحاول الجمع أو الفصل بينهما. ولعل هذا -أيضا- ما تعكسه طبيعة تناول الدين في أثناء هذا الدليل من قبل العلماء بوصفه أمرا أوليا جوهريا لا ينبغي تهميشه أو التقليل من أثره.

العلاقة التصادمية-التكاملية بين الدين والعلم:

في عام 1925م، ذاع صيت محاكمة قضائية أمريكية جرت في مدينة دايتون بولاية تينيسي، كان المتهم فيها هو جون سكوبس، ذلك المعلم الذي اتُهم بانتهاك قانون الولاية بتعليمه نظرية التطور الداروينية لطلاب إحدى المدارس الممولة من الولاية، حيث يجرم هذا القانون ذلك.

وهنا كان العلم هو الخصم، وكان الدين هو الحكم. وبعد ثمانين عاما تقريبا، في أكتوبر 2004، أعادت مجموعة من قادة المجتمع المدني في مدينة دوفر التابعة لولاية بنسلفانيا ما جرى في دايتون من قبل، ولكن في هذه المرة تبدلت الأدوار بين الخصم والحكم، فصار الحكم خصما وصار الخصم حكما.

تبدأ هذه الواقعة بتصويت مجلس إدارة مدرسة دوفر على إدراج مقاربة “التدبير الإلهي المُحكم” intelligent design ضمن فصول مقرر البيولوجيا، وإيداع -أيضا- 60 نسخة من الكتاب المدرسي المسمى Pandas and People أو “حيوانات الباندا والبشر” (1993)، الذي يتبنى تلك المقاربة ويعرض حججا جدلية ضد نظرية التطور، في مكتبة المدرسة كمادة تعليمية.

وترتب على هذا، أن أقام أحد عشر وليا من أولياء الأمور القلقين على أبنائهم دعوى قضائية ضد المقاطعة، معتقدين أن تدريس مقاربات دينية تتعلق بالخلْق في المدارس العامة هو أمر مخالف للدستور.

تعكس هاتان الواقعتان حقيقة التاريخ التصادمي القديم-الحديث في علاقة الدين والعلم في الغرب. ألا يذكرك هذا بقانون الوسط الممتنع excluded middle، “إما (أ) أو (لا أ) ولا ثالث بينهما”؟ بتعبير آخر: إما (الدين) أو (العلم) ولا ثالث يجمع بينهما. ذلك الاستبعاد الذي فرضته طبيعة النظر في كلا المجالين. بمعنى أنه لما كان الدين يطرح غالبا تساؤلات تتعلق بمعنى الحياة وغايتها وأصل الإنسان وقدره وخبراته الروحية، تجد أن العلم يولي اهتماما كبيرا لفهم الجانب الموضوعي والكمي والفيزيائي للكون بُغية التحكم في العالم الطبيعي.

أن الاحتياج إلى التوفيق بين العلم والروحانية في عصرنا الراهن أضحى مطلبا أكثر إلحاحا من ذي قبل. نعم، يحتاج الدين إلى العلم ليثري الروح الأمبيريقية عند نظر الدين في الطبيعة، كما يهذب الدين العلم عند دراسته للحقائق الروحانية والخبرة الذاتية. وعلى هذا، تختص بحوث هذا الدليل باستكشاف الأوجه المتعددة للعلاقة التكاملية-التصادمية بين الدين والعلم.

وعلى الرغم من ذلك، فلا يناقش هذا الدليل “الدين” بوصفه نسقا معرفيا خاصا في علاقته بالعلم، الذي هو بدوره نسق معرفي خاص أيضا، بل يتناول حوار الدين والعلم ومساعي التفاهم فيما بينهما تحت عنوان  “الدين والعلم” بوصفه مبحثا معرفيا في حد ذاته. ذلك المبحث الجديد الذي تأسس على أن العلم ليس منفردا، ولا الدين -أيضا- ينبغي له افتراض إمكانية تقديمه إجابات وافية للآخر حول تحقيقاتهما في العالمين المادي والروحاني، بل ينبغي أن يكون ثمة تناغم بين إجاباتهما، إذا كانت -حقا- هناك ثمة وحدة أساسية للمعرفة بشأن عالم الواقع الواحد.

في موضوعات هذا الدليل:

إذا صح أن “الدين” هو اسم يجمع بداخله العشرات بل المئات مما “يتعبد” به البشر حول العالم -من ديانات سماوية أو إبراهيمية كاليهودية والمسيحية والإسلام، ومعتقدات روحانية كالهندوسية والبوذية، وفلسفات ومذاهب دينية كالحلولية والمذهب الطبيعي الديني- وإذا صح أن العلم المعاصر هو اسم يجمع بداخله العشرات من العلوم الأساسية كالفيزياء والبيولوجيا وعلم النفس والأنثروبولوجيا، والعشرات من التخصصات الفرعية المنبثقة من علم واحد ومن المزج بين علمين أو أكثر، مثل: علم النفس التطوري، والبيولوجيا الجزيئية، وفينومينولوجيا الأعصاب، أقول: إذا صح هذا وذاك، صح معه -بالضرورة- أن العلاقة بين الدين والعلم تتعدد وتتنوع بتعدد صور الدين وفروع العلم وتنوعهما.

وبهذا الصدد، اقرأ في الجزء الأول من هذا الدليل-قدر الإمكان- استقصاء للعلاقة بين صور متعددة ومتنوعة للدين بالعلم “في مجمله”، لا سيما الكوزمولوجيا، أي البحث في أصل هذا الكون وتطوره. ألا ترى أن اختلاف المقدمات يؤدي إلى اختلاف النتائج؟ هكذا هي نواتج علاقة الدين بصوره المختلفة –من يهودية ومسيحية وإسلام وهندوسية وبوذية.. إلخ- بالعلم: رؤى دينية متنوعة للعلم. من جانب آخر، اقرأ في الجزء الثاني من هذا الدليل -قدر المستطاع أيضا- استقصاء للعلاقة بين فروع متعددة ومتنوعة للعلم بالدين “في مجمله”، لا سيما الدين المسيحي.

ألا ترى مجددا أن اختلاف المقدمات يؤدي إلى اختلاف النتائج؟ هكذا هي نواتج علاقة العلم بفروعه المختلفة –من علم كونيات وفيزياء وبيولوجيا وعلم نفس وعلم اجتماع وإيكولوجيا وأنثروبولوجيا.. إلخ- بالدين: رؤى علمية متنوعة للدين.

ربما يبدو لك أن البحث في هذه الصور المتنوعة للعلاقة سواء من جانب الدين أو من جانب العلم لا يزال يدور في فلك أن كلا من الدين والعلم مبحثان منفصلان مستقلان. ظاهريا، أنت محق، إلا أنه مما يجب التنبيه إليه بهذا الصدد أن البحث في “عمومية” العلاقة بين الجانبين هو مدخل حتمي -بل طبيعي- للغوص في مضامين تلك العلاقة، وتوطئة أساسية لا بد منها للشروع في تأسيس مبحث معرفي جامع للمجالين معا.

وعلى هذا جاء التحول في الجزء الثالث من هذا الدليل من “العام” إلى “الخاص”، حيث يعرض بحوثا حول المجالات الرئيسة في هذا المبحث الجديد تستهدف بسط القول فيما أسهمت به العلوم والفلسفات واللاهوتيات في تأطير مبحث “الدين والعلم” وصياغته.

يتناول الجزء الرابع من هذا الدليل المقاربات الرئيسة في دراسة الدين والعلم، مثل: الرؤية العلمية للدين، والمقاربة ما بعد الميتافيزيقية لتكامل العلم والدين. ولتتساءل هنا: هل من مقاربة متكاملة يمكن أن يُبحث عبرها عن المعاني والأفهام المختلفة للعلم والدين وتستطيع عبرها البدء في فك العقد المستعصية للدين التقليدي والعلم الحديث في عالم ما بعد الحداثة؟

بطريقة أخرى أقول: هل من مقاربة متكاملة تطرح منهاجا لربط كثير من جوانب العلم بكثير من الرؤى الدينية؟ أما الجزءان الخامس والسادس فيتناولان عددا من النقاشات والقضايا المحورية في علاقة الدين والعلم، مثل: إشكالية الفعل الإلهي، ومذهب الحلولية، ومقاربة التدبير الإلهي المحكم، والمقاربات النسوية، وقضايا القيم.

ختاما..

فإن هذا الدليل يقدم وجبة معرفية متكاملة العناصر لا غنى عنها لأي متطلع للمعرفة والاستنارة بهذا المبحث المعرفي الجديد. كما أن تبني أية نظرة قَبْلية متشددة حول مراد مفكري الغرب وعلمائهم من تأسيس هذا المبحث من شأنه أن يكبل قريحتك عن ابتداع الكلام وإبداء الرأي في موضوعاته، ومن ثم الإسهام فيها، لا سيما أننا أرباب ديانات سماوية ممزوجة بتاريخ حضاري مستنير وجغرافيا متفردة، أضحى معهم الانخراط في هذا المبحث المعرفي الجديد مخرجا من الصراع الديني والتأزم الحضاري والتقهقر العلمي الذي صرنا إليه، فهو أمر لا يحتمل المزيد من التجاهل أو التأجيل.

[1]  العنوان الأصلى للكتاب:

Philip Clayton and Zachary Simpson, The Oxford Handbook of Religion and Science, Oxford University Press, 2006.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضاً:

الفلسفة والدين … كيف ولماذا!

طريقة تعاملنا مع النصوص الدينية

هل يصلي العلماء!

د. هيثم السيد

أستاذاً مساعداً فى الجامعة المصرية-اليابانية للعلوم والتكنولوجيا