سارق ومسروق – الوجه الثاني عشر
أربعون وجها للص واحد "متتالية قصصية"
يعرف السارق جيدا المبلغ الذي سرقه، فقد أودعه في حسابه واحتفظ بإيصال مفصل، كان يراه في البداية أحد دلائل قدرته على أخذ حقه، لكنه بمرور الوقت صار يتجنب النظر إليه كلما مد يده إلى درج مكتبه وأخرج ملفا يحوي معاملاته المالية، وذلك منذ اليوم الذي أرسل فيه المسروق إليه يقول:
ـ اتخذتك ابنا فخنت أبوتي.
نعم، لم يعد يطيق وقوع بصره على هذا الإيصال، لأنه كان كلما رمقه بطرف خفي لاح فيه وجه المسروق، ولذا فقد الرغبة في الاحتفاظ به كبرهان على انتزاعه ما اعتبره حقا، فالتقطه من بين الأوراق المكدسة، ومزقه عشرين مزقة، وألقاه إلى جانبه في سلة المهملات.
قبل أن ينصرف في آخر النهار، طلب من الساعي أن يأخذ القمامة إلى خارج المكتب، واطمأن إلى أنه قد فعل هذا، وأن الورقة الممزقة قد ضاعت وسط كل مهمل ألقاه على مدار أربعة أيام لم يأت فيها جامع القمامة لسبب لا يعلمه.
حين فتح الملف نفسه في اليوم التالي، اتسعت حدقتاه دهشة ورعبا، إذ رأى الإيصال الذي مزقه بالأمس لا يزال في مكانه. كان متأكدا من أنه لم يخطئ ما مزقه، إذ أنه قبل أن يُقدم على هذه الخطوة نظر إليه مليَّا، ليختبر آخر ضيق ينتابه كلما لمح الرقم المكتوب في نهاية جدول مستطيل موضحة فيه فئات الأوراق النقدية التي أودعها في حسابه.
مع هذا صرخ في الساعي فأتاه هرولة، ووقف أمامه يغالب ارتجافه، ويبذل جهدا في إظهار طاعته حتى يتجنب أذاه، بدأه بانحناءة إلى الأمام قليلا واضعا يده على صدره، وقال:
ـ أمرك يا بيه.
تمنى في هذه اللحظة لو ناداه بما حازه فور تقاعده، وهو شيء كان قد جذبه خطوة إلى الأمام ثم خطوات واسعة إلى الخلف، لكنه لم يذهب مباشرة إلى ما يريد، وسأله:
ـ هل جاء الزبال اليوم؟
تعجب من السؤال، لأنه لم يعهد به مهتما بهذا الأمر من قبل، لكنه كتم تعجبه، وأجابه:
ـ لا.
سرى ارتياح في وجهه، وقال له:
ـ اذهب وهات ما أخذته من مكتبي الليلة الفائتة.
جرى الرجل مسرعا، وعاد وفي يده كيس أسود. وجد السارق يمد يده إليه، فأعطاه ما جاء به، وسكب ما فيه على صفحة مكتبه، وراعه أن الساعي لا يزال واقفا، فنظر إليه في غيظ، وهو يشير إلى الباب، وقال:
ـ حين أحتاجك سأطلبك.
سحب كومة القمامة التي اختلطت فيها الأوراق بنشارة قلم الرصاص الذي لا يكف عن بريه، لأنه كلما كتب به ضغط عليه في عنف حتى ينكسر سنه، وكذلك بقايا عبوات الشاي التي نزفت ما فيها في الماء الساخن واحتساه منتشيا، وعلب المشروبات الغازية الفارغة، وورق قديم لم يعد مفيدا لديه، ومناديل ناعمة بصق فيها أو مسح بها وجهه.
فتش في عناية وأخرج كل الأوراق، المطوية والمضغوطة والممزقة، وأعاد بقية القمامة إلى الكيس. فرد الأوراق أمامه، فوجد من بينها الإيصال الذي مزقه. بعضها كانت قد رشحت عليه بقايا الشاي، وأخرى كانت قد تناثرت عليه نشارة خشب، لكن هذا لم يحل دون قراءة كلمات تبين أنه هو، ولا جدال في هذا.
نحى ما وجد جانبا، وفتح الملف فوجد الإيصال لا يزال في مكانه سليما مثلما وضعه في زمن مضى وقت أن كان يزهو بنفسه لأنه اقتطع ما تصوره حقا له. حين نظر إليه أتاه وجه المسروق من بين الخانات، لكنه هذه المرة لم يغط على الأرقام المتتابعة في الجدول المستطيل، والتي لم تكن سوى ما سرقه، دون زيادة ولا نقصان.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
اقرأ أيضاً:
الوجه الأول، الوجه الثاني، الوجه الثالث، الوجه الرابع