“آسفة على الإزعاج”
في جو قارس البرودة لا يقوى عليه أعتى الرجال وتنكمش له الأبدان، وتسمع له ضجيج الأسنان، تصحبها الآهات وأياد مرتعشات، ورغم ذلك كثيرا ما غالبني النوم في كل مكان يتحسس فيه جسدي الدفء، بعد تهالكه من مشقة المرور طوال الليل على الحالات التي تتوافد إلى المشفى، خاصة قسم الطوارئ، سواء من حوادث أو غيرها،
لكنني عند أي تكاسل أجد ما يهزني بقوة من داخلي، فيظل يحرك في رأسي حتى يرضخ له جسدي بأمر مُطاع، استشعرت أن الكثيرين يستنفرون من مروري عليهم، حتى زميلاتي مللن من رفقتي، لكنني دوما ما أقول لنفسي: “لا يهم فإرضاء كل الناس غاية لا تُدرَك”.
ظلت أقدامي تخترق سكون الليل البهيم، فيسمع المرضى وقع الخطى، والأركان تهتز لها هنا وهناك، وكأنني قائدة لكتيبة في الجيش!
لم يتبقَ لي سوى قسم الكُلى الصناعي، أذان الفجر يصدح آخذا بالألباب، المرضى والتمريض تكبدوا مشقة المجيء في هذا الجو المؤلم، وحدث ما لا يُحمد عقباه، عطل في وحدة المياه! يا إلهي ماذا أفعل لحل تلك المشكلة الكبيرة الآن؟!
تبا لجحود البشر
ما يؤلمني الآن ليس جسدي الذي يرتعش، ولا أطرافي التي فقدتها وكأنها ليست مني، بل أن أرى مريضا طاعنا في السن أذله المرض، وأكلت الفاقة والحاجة ملامحه، يأتيك بالكد من منزله الساعة الخامسة صباحا في جو مليء بالضباب مستأجرا توكتوك أو سيارة خاصة، قاطعا الأميال من قلب الريف، أو أقصى ضواحي المدينة لينال ما تبقى له من آمال في الحياة وإن كانت غضة، كل ثلاثة أيام دواليك، لقد رضي بقدره المكتوب منذ الأزل، أن يظل أسير مرضه وضعفه، ولكن ما يندى له الجبين أن يتحمل هذا المريض فوق مرضه ومعاناته معاناة أخرى!
آه وألف آه! إن الجلسة تستغرق أربع ساعات، معاناة الفلترة للدم ووخز الإبر لهذا الجسد السقيم، تنتظره معاناة أخرى، وهي الجلوس في الاستراحة بهذا الجو القارس المنهك للأبدان، ينتظر إصلاح العطل متى يترأف بحالهم مسؤول من الصيانة! بادرت بالاتصال بالمسؤول الأول عن الصيانة، ومع أول رنة لهاتفه أغلقه!
تبا لجحود البشر، لا بد من معاتبته بشدة وتعنيفه، لا والله لا يكفي غضبي وغضبهم هذا، لا بد من كتابة شكوى فيه، ألا يعرف هذا الجاحد حجم ما يعانيه المرضى والتمريض معا كي يأتوا في هذا الوقت؟! إنما جاؤوا مبكرا كي يسمح الوقت بالغسيل لأكبر عدد من المرضى، وقد أصبحوا كثر والإمكانيات أقل، فكرت بسرعة واتصلت على زميله لعله يسعفنا، ويا للأسف لقد كان زميله أكثر خِسة ومكرا، فقد جعل هاتفه منذ المساء في وضع المغلق تحسبا لأن يترك مرقده الدافئ في هذا الجو!
انتظار غير مُجدي
ماذا أفعل؟ لا بد من الاتصال بمدير القسم، يا ويح أمي ليس لديه شبكة في تلك المنطقة التي يقطنها، لكنني حاولت ولم يحالفني الحظ، المرضى كادوا يقطعون جسدي إربا إربا بكلامهم المسموم لي تارة، ولزميلاتي من التمريض تارة أخرى، إذًا لا بد من الاتصال بمدير المشفى لعل لديه الحل.
رن الهاتف المحمول، هو: “مين؟”، “آسفة على الإزعاج يا دكتور”، بصوت حاد: “مين؟ اخلصي أنتِ مين وعايزة أيه؟”، “أنا مشرفة التمريض النوباتجية هذه الليلة”، “أيوه يا..” وهو يتثاءب. بدأت أختصر له المشكلة في دقيقة فاختصر هو الرد “طيب طيب، هاكلملك الدكتور النائب يحل لك المشكلة”.
انتظرت بجوار المرضى، أُضمد جراح قلوبهم ولحظات يأسهم من الحياة، وحظهم السيئ، وحينما أعجز عن ذلك أتجه إلى زميلاتي من الممرضات، فتصيبني نوبات من الإحباط أكثر وأكثر وكل واحدة منهن ترسل في وجهي زفيرا من الآهات، فهذه وهذه تركن أطفالهن الرضع، وتلك وتلك أتين رغم مرضهن، وأخرى تركت زوجها المريض وقدمت للعمل مبكرا، وأخرى تندب حظها لمَ لمْ تسافر للكويت مع زميلتها التي تتقاضى راتبا شهريا يعادل راتب عام بالكامل هنا!
تثاقلت فوق رأسي هموم الجميع، وأنا أضع واحدا تلو الآخر فوق رأسي منذ أول الليل، أنظر في ساعتي تارة وإلى هاتفي تارة أخرى، عل الحل قادم الآن.
حتى داهمتنا الساعة الثامنة والنصف صباحا ومعها رن هاتفي “ألو أنا الدكتور النائب” “أيوه يا دكتور عندنا مشكلة كبيرة هنا في..” لم يستمع هو الآخر لبقية حديثي، مقاطعا ومعاتبا لي بحدة على إثمي حين اتصلت بالمدير لأخبره بمشكلتنا! لم أجد ردا عليه غير أنني آسفة على الإزعاج، وصرت أهديها الجميع حتى حان وقت الخروج.