مقالاتسارق ومسروقفن وأدب - مقالات

سارق ومسروق – الوجه العاشر

أربعون وجها للص واحد "متتالية قصصية"

لم يكن أمام السارق من سبيل سوى أن ينزع من ذاكرته مشهدا كان بداية ما أوقع فيه نفسه من ألم، فتجاهل هذا في البداية، وتكبر عليه، لكن المشهد كان يتسرب إلى نفسه في إصرار وهدوء كلما طارده وجه المسروق، حتى تمكن منه، فصار يفزع في نومه، وحين يفتح عينيه مستريحا لمجرد بقائه على قيد الحياة يجد نفسه يتصبب عرقا.

تمنى لو كان بوسع الإنسان أن يفتح رأسه ويُخرج مخه وينزع الذاكرة نفسها ويدمرها، ويعيد كل شيء إلى حاله، كما يحدث مع أجهزة الحاسوب، حين يتم إلغاء ملفات من ذاكراتها بإلقائها في سلة المهملات، ثم تعقبها وإبادتها تماما.

لم يكن بمقدوره أن يفعل ذلك إلا إذا قتل نفسه، فيكون المخ بما فيه من ذاكرة أول ما يموت، لكنه كان أحرص على أي حياة، لهذا فكر في اتجاه آخر.

كان قد سمع ذات مرة عن أولئك الذين يتدربون على النسيان، وكم أعجب بهذا، وراق له، يوم ترك المكان الذي كان ينتظر الوصول به إلى منصب رفيع، لكنهم أرسلوه إلى التقاعد مبكرا، فبعدها تمنى لو ذهبت كل أمنياته هذه من رأسه، ونسي تماما أين كانت قدماه تدبان؟ وإلى أي شيء كان يطمح؟

أنساه الزمن هذه الفترة، وغرق في عمل آخر، باحثا عن وجاهة أخرى. وحين رأى نقود المسروق أمامه، قال لنفسه:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ـ صار ما أصبو إليه قريبا من جيبي.

الهداية إلى فكرة

لكن صاحب النقود كان أحوط منه، فربما قرأ في عينيه طمعا، فتفادى الوقوع في حبائله، وسد عليه الطريق، وترك له مشهدا يوخز ذاكرته فتهيج بما يؤلمه، كم تمنى لو كان بوسعه أن ينبش فيها ويخرجه منها، ومعه تلك اللحظة التي قرر فيها أن يأخذ ما ليس له، ويصور لنفسه وهما أنه حقه.

بحث في “جوجل” عن وسائل التغلب على ما في الذاكرة، كتب ما يريد بعبارات عديدة، فجاءت إليه سخية أخبار ومقالات ودراسات عن رهبان من ديانات آسيوية، قرأها لكنه لم يستوعبها كاملة، وإن كانت قد أوحت إليه بأن عليه أن يصلي بإفراط.

لم يكن يعرف من الصلاة سوى الركوع والسجود والتشهد، فزاد في هذا، لكنه لم يستطع تجاوز الطريقة الآلية التي يؤدي بها صلواته دون خشوع، فخرج منها كما دخلها، وازدادت حيرته، حتى اشتعلت جوانحه بألم لا يطاق، ولم يكن أمامه من سبيل سوى أن يعترف للمسروق.

وقال لنفسه متهللا بعد أن اهتدى إلى هذه الفكرة:

ـ وجدتها.

وترك المقعد الذي يجلس عليه خلف مكتبه العريض، واكتسى وجهه بابتسامة عريضة، وقال:

ـ آن الأوان أن أستعيد وجهي.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضاً:

الوجه الأول، الوجه الثاني، الوجه الثالث

الوجه الرابع، الوجه الخامس، الوجه السادس

الوجه السابع، الوجه الثامن، الوجه التاسع

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري