مفهوم السعادة في الفكر الفلسفي اليوناني – الجزء الثاني
بعد أن تحدثنا في المقال السابق الجزء الأول عن الفرق بين اللذة والسعادة، نتناول في هذا المقال موقف فلاسفة اليونان من هذه الإشكالية. فما موقف فلاسفة اليونان من هذه الاشكالية؟ هل فرقوا بين اللذة والسعادة؟ أم خلطوا بينهما؟ وما موقفهم من القيم الخلقية ؟ هذا ما سنعرض له.
السوفسطائيين ونسبية القيم الخلقية
تحدث السوفسطائية عن الأخلاق وقالوا بنسبية الحقائق الأخلاقية، وأن الإنسان مقياس الخير والشر، وأن اللذة هي الخير الأسمى والألم هو الشر الأقصى، وأن كل فعل يفعله الإنسان يكون أخلاقيا إذا حقق لصاحبه لذة -لاحظوا معي، لم يقولوا سعادة وإنما قالوا لذة- وكل فعل شرير لا أخلاقي هو الذي يحقق ألما لفاعله، ومن ثم قالوا بنسبية القيم الأخلاقية، بل وذهبوا إلى القول أن الطبيعة البشرية مجرد حشد من الأهواء والميول والشهوات ومن العيب أن نستحي من إروائها وإشباعها، وهذه شرعنة لمذهب في اللذة لا في السعادة.
ولكن إذا أردنا أن نناقش هؤلاء بمنطق العقل لندحض هذا الفكر، تعالوا معي نفند فكرة فكرة، نسبية القيم الخلقية ونسبية الخير والشر.
هل القيم الأخلاقية نسبية متغيرة تتغير بتغير الزمان والمكان وتغير الأشخاص؟
نقول القيم الخلقية ثابتة، الجوهر ثابت لا يتغير، أما الذي يتغير فهو المظهر السلوكي، التعبير عن هذه القيم.. الشكل هو الذي يتغير، نضرب مثالا، الدفاع عن العرض والشرف، مهما تغيرت الأمكنة والأزمنة فقيمة العفة والشرف هي هي، أما الذي يتغير كيفية الدفاع، الوسيلة، فقديما كان الدفاع عن طريق امتطاء الجياد واستخدام الرماح والسيوف، لكن في عصرنا اختلفت الآلية باستخدام التقنية الدفاعية الحديثة.
إذًا المبدأ واحد والمبادئ الأخلاقية والقيم لا تتجزأ، أما الذي يتغير المظهر والوسائل، فالمبادئ الأخلاقية واضحة بذاتها، تتخطى الزمان والمكان، لا تقبل جدلا ولا تقبل شكا. وشاهدي على ذلك جورجياس السوفسطائي وبروتاغوراس، فنجد جورجياس يطرح ثلاث قضايا من وجهة نظري تحمل ما تحمله من التناقض،
أولها لا يوجد شيء على الإطلاق -أقول له وأنت غير موجود- وثانيها حتى إذا وجد شيء لا نستطيع أن نعلمه -أقول كونك أن تتحدث عن ألا يوجد شيء فأنت قد علمت أنه يوجد شيء، وثالثها وحتى إذا علمناه لا نستطيع أن نعلمه للآخرين -وأقول بمبدأ الحتمية المنطقية حتى إذا لم تعلمه أنت للآخرين هناك من سيقوم بهذه المهمة، فالعلم ليس مقصورا على شخص بعينه يقوم بهذه المهمة.
المشكل الثاني الفعل يكون فعلا أخلاقيا إذا حقق لذة والفعل يكون فعلا لا أخلاقيا إذا حقق تعاسة. نقول وهل الناس متساوون في ذلك؟ بمعنى من الممكن أن ما أراه أنا خيرا ويحقق لي لذة -على حد تعبيرهم- يحقق ألما للآخر فمثلا هناك -وأقول مثلا- من يتلذذ بضرب زوجته، هل ذلك يحقق لذة لها؟ طبعا يحقق ألما وتعاسة حتى وإن حقق لذة له، وعلى النقيض. لذا نرى أن الفعل الخير هو هو لا يتغير وكذلك الفعل الرذيل هو هو لا يتغير أيضا.
هل حياتنا عبارة عن نزعات مادية حسية فقط؟
أما المشكل الثالث أن الطبيعة البشرية عبارة عن حشد من الأهواء والميول والرغبات وعلينا ألا نستحي في إشباع هذه الغرائز، لكن يا سادة هل فعلا حياتنا عبارة عن نزعات مادية حسية وحياة نفنيها جريا خلف رغباتنا؟ وأين الجانب الآخر في الإنسان؟ أين الجانب القيمي الأخلاقي الروحي؟ هل تريد أن تحيا هذه الحياة الحيوانية؟ إن أردت ذلك فعش واحيَ ما قدر لك من الحياة لكن سيكون مثلك كمثل الكلاب إن تحمل عليها تلهث أو تتركها تلهث أيضا، ومت كالانعام أو كالخنازير.
يا سيداتي وسادتي لقد أنعم الله علينا بنعمتين عظيمتين تميزنا بهما عن سائر المخلوقات، نعمة العقل الذي نميز به بين الخبيث والطيب، بين الحق والباطل، بين الجميل والقبيح، بين الخير والشر، بين اللذة والسعادة، فلنوظف عقولنا لبلوغ السعادة القصوى، سعادة التواصل مع الخير الأسمى، الخير الدائم الذي يمدنا بكل الخيرات، الذي يسبغ علينا سعادة دائمة تغمرنا تجعلنا نقضي حياتنا سعداء منشرحي الصدور.
ليس هذا وحسب بل ومنحنا إرادة حرة مستنيرة وبصيرة نافذة تقودنا إلى فعل الخير والبعد عن كل مرذول ومنقوص، فاختاروا لأنفسكم بإرادتكم ومن خلفها عقولكم، اختاروا أن تعيشوا سعداء أو تعيشوا تعساء.
تلك هي فلسفة الأخلاق السوفسطائية، أولئك الذين قلبوا الحق باطلا والباطل حقا، أولئك الذين تلاعبوا بعقول الشباب الأثيني معتمدين على براعتهم في فن الخطابة. أولئك الذين قالوا بنسبية المعرفة لاعتمادها على الحواس.
يبقي سؤال، هل تصدى سقراط لهؤلاء؟ هل أبطل أغاليطهم وتلاعبهم بالألفاظ؟ استخدام الألفاظ المبهمة الغامضة، هل وافقهم في نسبية القيم الخلقية؟ ما موقفه من الفضيلة؟ ما مفهومه عن السعادة؟ ما قيمة معرفة النفس عنده؟ ما هي الفضائل التي حدثنا عنها؟ وما أنواع القوانين عنده؟ وهل حقا طبق سقراط فلسفته الخلقية على حياته؟
هذا ما سنتعرف عليه في الجزء الثالث والذي ستتناول فيه فلسفة أرسطو الأخلاقية وموقفه من فكرة السعادة.