مقالاتعلم نفس وأخلاق - مقالات

الكائن الافتراضي

هل نحن بالفعل قد تحولنا إلى كائنات افتراضية؟!

نعيش واقعا افتراضيا خياليا، لا علاقة له بالواقع المعيش أو بالحياة الحقيقية ولا يمت لهما بصلة، ولا نعرفه ولا يعرفنا إلا من خلال أسامينا التي ربما تكون هي الأخرى مزيفة، أما صفاتنا وأخلاقياتنا فتعيش فقط على صفحات التواصل الاجتماعي، كالفيس بوك أو تويتر أو الواتس آب.

الفضاء الأزرق “ساحة للنفاق”

وإن نظرة عجلى على صفحة أحدهم عبر هذا الفضاء الأزرق _وما أبرئ نفسي_ تجده وقد رفع الأخلاق شعارا، والصدق دثارا، والأمانة منهجا، والمروءة مطلبا، والشجاعة سبيلا، والإخلاص طريقا، ثم إذا بك تجد سيلا من الآيات القرآنية تتراءى أمام ناظريك، والأحاديث الشريفة تترى في عينيك، والخطب تتوالى، والمواعظ تتالى، تؤكد صدق دعواه، وحقيقة ما ادعاه،

في الصباح دائما ما يذكرك بصلاة الفجر والأذكار، وعند الشروق بصلاة الضحى، ووقت الغروب ينبهك إلى التهليل والتسبيح، وبين ذاك وذاك يلقي عليك بموعظة تدمع منها العيون، وتوجل منها القلوب، وبين الفينة والآخرى يتحفك بمقولة إمام عالم أو شيخ هائم، ثم يا سلام يا سلام على منشورات تجدها وقد ازدانت بالتهليل، وتزينت بالتكبير، وتزينت بالصلاة والسلام على المصطفى النذير،

صفحات إشراقية لا تصدر إلا من قلب تقي نقي قد أشرب الإيمان حتى الثمالة، ودخل الإسلام قلبه فأشرق هذا البهاء على تلكم الصفحات، فحولت مدادها إلى أحرف قرآنية، وألفاظ نورانية، وكلمات ربانية، تذكرك بالحكم العطائية، أو بشعر ابن الفارض في التائية، فتهيم في بحر من الإيمان، وتعيش في جو من الإسلام، فإذا ما أردت أن تصاحب أحد هؤلاء على أرض الواقع الفعلي ومعترك الحياة، وقد عرفته من خلال صفحته شيخا للإسلام، ومنبع التقى والإيمان،

فإذا به بعد أن تعامله عن قرب وتخبره عن كثب تجده لا يمت بصلة إليه، شيطان في صورة إنسان، قد ارتد على أدباره، وارتكس على آثاره، ونكص على عقبيه، وانقلب على رجليه، سوء خلق، وقلة عقل، وانحطاط أمر، وخسة قدر، ودناءة أصل، ورقة دين، وغلظة طبع، فإنا لله وإنا إليه راجعون. تقول إحدى الزوجات: كلما قرأت ما يكتبه زوجي أو ما ينشره على صفحته تمنيت أن يكون زوجي!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الأجمل أن يكون ذلك منهج حياة

وربما قد تعثر وأنت تقلب الطرف في صفحة إحداهن _وقد غدت صديقة لك عبر حسابك_ فتجدها وقد حدثتك عن الفضيلة ليل نهار، وصدعت رأسك عن الأخلاق صباح مساء، تدندن دائما عن الحجاب وفريضته، والنقاب وفضيلته، والحشمة ولا أرضى عنها بديلا، والعفة ولا أرتضي دونها سبيلا، والجورب دونه الرقاب، والحذر الحذر من مخالطة الأصحاب!

فإذا ما كتب الله لك وقابلتها عن قرب، وخبرتها عن كثب، رأيت كل ذلك محض سراب، أقبح النساء خلقا، وأفحشهن غلطا، وأسرعهن خطيئة، وتكتشف أن كل الذي كتبته، وجل الذي أذاعته ونشرته، لم يكن إلا “طق حنك” لاصطياد عريس، أو البحث عن أنيس.

يا سادة! جميل جدا أن نتقي الله فيما نكتبه، فلا تكتب بخطك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه، وعظيم أن نخشاه سبحانه فيما ننشره على صفحاتنا، فلا نذيع على صفحات التواصل إلا كل ما هو طيب ومفيد ونافع وجديد، حتى لا نقع تحت طائلة الآية الكريمة: “إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ”، أو قوله: “وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا”،

لكن الأجمل من كل هذا أن يتحول كل هذا إلى منهج حياة، وسلوك نجاة، نراه في الحقيقة مسطورا في أخلاقنا وعلى صدورنا قبل أن يكون مدادا على صفحاتنا وبين طيات كتبنا، حتى لا نستحيل إلى فئة المنافقين، وطائفة المرائين، وزمرة الخائبين الخاسرين. “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ”.

اللهم لا تجعلنا من الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، واجعلنا اللهم من الذين يطابق قولهم فعلهم، وصفحاتهم صفاتهم، ورسمهم وشمهم، فنعيش بالأخلاق، ونحيا بالفضائل واقعا ملموسا، ومركبا محسوسا، آمين.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضاً:

الواجب الأخلاقي ودلالاته عند إيمانويل كانط وانعكاساته على الواقع المعيش

القيم الأخلاقية الضائعة هي الرصاصة الأشد فتكاً في صدر أي مجتمع

ماذا أنتجت النسبية الأخلاقية؟

أ. د. محمد دياب غزاوي

أستاذ ورئيس قسم اللغة العربية- جامعة الفيوم وكيل الكلية ( سابقا)- عضو اتحاد الكتاب