مقالاتقضايا وجودية - مقالات

الحياة الإنسانية والإنسان – الجزء الثامن

الهوية الفكرية

هل من الواجب أن يتبع الإنسان مدرسة فكرية معينة، أو هل يمكن أن يخلو إنسان من تبني لفكر معين، باعتباره فردا من أفراد المجتمع الذي يعيش فيه؟

للإنسان نشاط يقع تحت التأثير المباشر للغريزة كالأكل والشرب وغيرها من الأفعال التي يتلذذ بها الإنسان وقت القيام بها، لكن ليس هذه فقط هي كل الأفعال التي يقوم بها الإنسان، فهناك أفعال ليس لها علاقة لا تجر الإنسان نحو الغريزة وفي نفس الوقت لا تبعده عنها ،

فبتحكم الإنسان في أفعال بالتدبر العقلي يقلع عن بعض الأعمال ويذهب لغيرها هدفه الأساسي هو المصلحة العامة في عمل فعل معين أو ترك فعل آخر، أي أن المصلحة هي العلة والقوة المحركة كترك التدخين والتقليل من بعض الأطعمة.

العقل هو الأساس

تلك الأفعال التي يقوم بتحديد المصلحة فيها. العقل هو في الأساس نابع من نمط التفكير الذي يفكر به الفرد، فمثل هذه الأفعال تحتاج للتدبير والتخطيط وكل ذلك نتاج الفكر الذي له ارتباط وثيق بمدى وعي الإنسان وكمية المعلومات الصحيحة في حصيلته المعرفية.

تلك الأفعال التي يحددها العقل هو شرط الإنسانية اللازم لأن عقل الإنسان ووعيه يشكل جانب كبير من إنسانيته شرط ربطه بالقيم السامية التي تعلو على المادة واللذة المادية الشهوانية المؤقتة ولا تكون تلك الأفعال في تضاد مع تلك القيم، وإلا فإن السرقة واستعمار الشعوب والنصب يتم وفق التدبير العقلي والتخطيط والتفكير المنظم لخلو تلك الأفعال من القيم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وهنا تظهر الحاجة لأهمية المنهج الفكري والأسلوب الذي يتبعه كل إنسان لتحديد تلك الأهداف والأفعال ومدى سلامتها وسلامة الغايات النهائية لها، لتجد المصلحة العامة نحتاج لرؤية ونظرية كلية ومنسجمة في نفس الوقت ، تؤدي بالنهاية للتكامل الإنساني المطلوب للحياة الإنسانية للإنسان.

نحن في أمس الحاجة اليوم وأكثر من أي وقت لتلك النظرة الكلية المنسجمة مع حقيقة الإنسان، لا تغفل جانب من مكونات الإنسان على حساب الجانب الآخر تحقق له التوازن المادي والمعنوي معا، فإن الفكرة السليمة والرؤية الواقعية تعتبر من ضروريات الحياة اليوم سواء الفردية أو الاجتماعية.

ولا شك أن تلك النظرة الكلية يجب أن تعرف دور وأهمية كلا من العقل والدين والعلم كذلك المشاعر والأحاسيس، وتدرك خصوصية كل أداة من تلك الأدوات وكيفية الانسجام المنطقي بينها ، فإذا كنا نملك تلك النظرة عن أنفسنا والوجود، وندرك ونرفض فكرة الفراغ والعدمية والصدفة التي أغرقت بها المجتمعات، وأننا نعيش في نظام منظم متقن في كل أركانه ، فكما نشاهد النظام من حولنا في قوانين الطبيعة؛ فمن الطبيعي والمنطقي أن تكون الحياة الإنسانية أيضا منظمة ومتقنة.

المنهج العقلي والفكرة الشاملة:

الحاجة إلى المنهج المعرفى ضرورية لكل إنسان فمن الطبيعي عندما يقرر الإقدام على فعل معين أو ترك هذا الفعل، فإنه في الحقيقة يتصرف بناءً على ما يعتقده ويؤمن به، فعندما يعتقد أن المال مفيد وأنه أفضل شيء في الحياة، فإن أي عمل يجعله يجني المزيد من المال، يعتقد أنه جيد ويفعله، وأي عمل يقلل من ماله ويجعله يخسر المال، يعتقد أنه عمل قبيح ولا يفعله،

وهذا المعتقد الذي يعتقده الإنسان إنما ينشأ من طريقة نظرته لهذا العالم، فالإنسان عندما ينظر للعالم ويؤمن أنه لايوجد سوى هذا العالم المادي؛ فإنه سيعتقد أن كل ما يؤدي إلى الاستمتاع بهذا العالم المادي هو شيء حسن وجيد وله قيمة، على العكس عندما يرى العالم المادي وأن له نهاية، وتوجد حياة أخرى بعده وبالتالى فهناك شيئ ما وراء المادة له قيمة أعلى وأكبر، فما يعتقد أنه حسن وما يعتقد أنه قبيح قطعًا سيتغير، وأفعاله حتمًا ستتبدل، وهكذا كل حياته.

وعلى ضوء ذلك يتفق الجميع على أن الاعتقاد الأساسي أو نظرة الإنسان للكون تتوقف عليها كل حياته، تشخيصه لمعايير لذته وبهجته وتعاسته، أفعاله وتصرفاته، وبالتالى يتحدد على ضوئها مصيره.

ولذلك فمن منطلق أهمية الرؤية الكونية للإنسان – كما أسلفنا – تأتى ضرورة تعيين المنهج الذي على أساسه يتم تكوين المعرفة.

والمنهج العقلي هو المنهج المعتمد على العقل المعرفى كأداة كاشفة للواقع ومدركة للحقائق.

العقل المعرفى:

هو قوة النفس التى بها تدرك المعانى الكلية، وهو أحد الأدوات المعرفية التى بها يحصل ” الإدراك العقلى ” الذى يعتبر المرتبة العليا من مراتب الإدراك، وراء الحس والخيال والوهم

وبهذه القوة النفسية ” العقل ” يتميز الإنسان عن الحيوان بالآتى:

1- التساؤل عن علل الأشياء وحقائقها.
2- إدراك المعانى الكلية.
3- التمييز بين الحق والباطل، الخير والشر، وإدراك مسببات السعادة ” كل ماسبق يتحقق عبر مايسمى بالعقل النظرى “.
4- تدبير البدن وتحريك الفعل الإنسان نحو تحقيق النفع واللذة والابتعاد عن مسببات الشقاء عبر مايسمى بالعقل العملى.

خطوات ومنطلقات المنهج العقلى:

إذا أراد الباحث أن يحصل على نتائج يقينية رصينة لبحثه، بعيدة عن الشكوك والشبهات، فلا بد له أن ينطلق في تفكيره وبحثه من نقطة الصفر، وهي نقطة التشكيك الاختياري المطلق في كل ما يحيط به، ثم يشرع في التفكير؛ فيخطو الخطوة الأولى، لإثبات أصل وجود الواقع الخارجي بنحو مجمل، ثم يشرع في الخطوة الثانية لإثبات إمكان العلم التفصيلي بهذا الواقع الموجود.

وليس أمامه في هاتين الخطوتين التفكيريتين للخروج من مستنقع الشك، إلاَّ أن يعتمد على سلسلة من المعارف الذاتية البيّنة بنفسها، التي يمكن الركون إليها والاعتماد عليها،وهذه المعارف البينة بذاتها ليست مختصة بفرد دون فرد أو طائفة دون أخرى، بل هي عامة مشتركة بين الجميع، وتسمى بـ(القضايا الأولية البديهية)، وعلى رأس الأوليات هي قضية امتناع اجتماع وجود الشيء وعدمه أو ما يسمى بـ(امتناع اجتماع النقيضين)، وأصل العلية ( وهى قاعدة أن لكل شيء ممكن سبب ).

وجود الواقع الخارجى

أنكر السفسطائيون وجود واقع من الأصل واعتبروا أن كل الموجودات مجرد أوهام وخيالات غير حقيقية. وبعرض تلك الأطروحة على ميزان المنطق لاتعدو نظرتهم مجرد فرضيات ظنية لادليل عليها.

إمكانية العلم بالواقع الخارجى

شكَّك البعض فى سلامة الحواس الخمس وعدم قدرتها على نقل الواقع المادى الخارجى بشكل أمين وصادق، واستدلوا بالعديد من الأمثلة منها أن العين ترى الشمس والقمر بأحجام صغيرة على عكس حجمها الحقيقى مثلا.

ولكن الرد عليهم بسيط لأن الحس صادق فى نقله؛ أما الذى يخطئ فى تلك الحالة فهو العقل غير المعتمد على القياسات الفيزيائية فى حكمه على كبر وصغر حجم الشمس مثلا؛ فالعقل يحكم بالقياسات الفيزيائية أن حجم القمر كبير جدا، أما العين فما هى إلا مثل الكاميرا؛ تنقل بأمانة. والعقل هو الحاكم فى النهاية.

السعى إلى الحق عبر إدراك المعرفة اليقينية

إن غاية مراد الإنسان هو البحث عن الحقيقة، ذلك الحق هو الكاشف للواقع أو المطابق للواقع كما يقول الحكماء، وليس كما يضع البعض من معايير أخرى للحق مثل القوة أو ماينفع الناس فى معايشهم المادية أو ما اجتمع عليه غالبيتهم

ثبات الحق:

إن مشكلة الغربيين أن علومهم ظنية متغيرة يحكمها المختبر، لذا أرادوا إسقاط هذا الفهم حتى على العلم الثابت البرهاني، فوقعوا في الشك في كل شيء، كما أن العلوم الاعتبارية مثل القوانين الوضعية والتشريعية المدنية والأحوال الاقتصادية لا سيما أسعار صرف العملات، كلها قابلة للتغيّر.

الحق مطلق

(إن كل علم نسبي!)هذه قضية القائلين بالنسبية، والرد عليهم يحمل ثلاثة وجوه:

إن البديهيات العقلية تمنع القول بالنسبية، فقضية بديهية مثل (الكل أعظم من الجزء) لو اعتقد بها شخصان بشكل مخالف لأدّى ذلك لاجتماع النقيضين المحال، وهكذا يكون الأمر بالنسبة لقضية (النقيضان لا يجتمعان).

فى المجال الرياضي والتجريبي هناك أساسيات مطلقة لا تخضع للنسبية لأنها علوم ذات قواعد صناعية لا أحد يستطيع تجاوزها؛ فليس لأحد أن يدّعي أن الحديد لا يتمدد بالحرارة ومن وجهة نظره، أو أن الإثنين نصف الأربعة مثلا، فإن أقر النسبيون بإطلاق تلك القضايا فعلى أى أساس يلصقون النسبية بقضايا فكرية واعتقادية أخرى؟

وإن اعتبر بعضهم القضايا التجريبية والرياضية نسبية فعلى أى أساس صنعوا الطائرات والأبراج ووسائل المواصلات طالما أنها مبنية على قوانين فيزيائية وميكانيكية غير ثابتة ولاتسبب لهم الاطمئنان ودرجة الأمان الكافى؟!

إنّ أكبر نقض يواجه به النسبيون هو ما يرد على مقولتهم (إن كل علم نسبي) فهل أن هذه القضية مطلقة أم نسبية؟! فإن قالوا أنها مُطلقة، فهو اعتراف بعلم مطلق لا يخضع لرأي شخص أو إيحاء ظرف ما. فإنهم أرادوا إثبات نسبية كل القضايا فتورّطوا بإثبات إطلاق قضية لم تسلم من النقض.

وإن قالوا: إنها نسبية، فتفقد صلاحيتها كقانون كلي مطلق لسائر القضايا والأحكام.

إن المنهج العقلى قادر على اكتشاف عالم الطبيعة وإدراك عالم ما وراء الطبيعة؛ لأن الإدراك العقلى – مثلما أوضحنا – أعلى من الإدراك الحسي وبالتالى فحدود العقل تفوق حدود الحس والتجارب والتى لايمكنها بأى حال من الأحوال تجاوز حد الواقع المادى ” عالم الطبيعة “.

اقرأ أيضا:

الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال، الجزء الرابع من المقال

الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال

الجزء السابع