تمازج الأرواح
ثمة أشخاص يدخلون حياتنا، وينفذون إلى ذواتنا، ويقتحمون أسوار قلوبنا على حين غرة، ودونما استئذان، فيفترشون دواخلنا، ويقتعدون أفئدتنا، ويؤنسون وحشتنا، ويهدهدون مهجتنا، ويمسحون دمعتنا، وينيرون ظلمتنا، ويلطفون قسوتنا، ويغفرون زلتنا، ويعفون عن أخطائنا، ويربتون على سواعدنا، ويرحمون ضعفنا. هؤلاء الذين إذا رأوا منا حسنة نشروا وقالوا، وإذا رأوا فينا سيئة ستروا وأقالوا، هم ري الصادي، وملجأ الغادي، وبلسم المدنف، وموئل المرتجف، وغطاء الملتحف، وإغاثة الملتهف، وركن المستضعف.
هؤلاء هم شفاء من كل داء، ومرجع لكل دواء، هم السنا والضياء، هم البرء من اللأواء، هم طاقة النجاة حينما تحلولك الحياة، هم الأمل حينما يشتد الألم، هم الهدف حينما ترتج السدف، هم باقة الورد حينما ينقطع الود، هم لمسة الحنان حينما يغيب الأمان،
هم نسمة العليل والهواء البليل، وشمس الأصيل، هم الظل حينما يقسو الحرور، والطل في عالم الشرور، هم الحلم في زيف الواقع، والراية في عالم المواجع. هم الأنا حينما يستفحل الآخر، والذات حينما يتشرذم الغير هم نعم الرفيق في ساعة الضيق، واللصيق حينما يخون الصديق.
هم ذلك الحبل السري الذي يصلنا بالحياة، هم السلوى والمناجاة، هم الوفاء في عالم الغدر والعداء، هم الجمال في عالم القبح، والصدق في مجتمع الرياء، والنقاء في مستنقع الشقاء، والخلق في قبيلة الوغد والدهماء. هم الكلمة الطيبة، والجملة الرقراقة، والتعبير الرائع، واللفظ الماتع، هم طوق النجاة، بل هم الحياة.
ومن كانت هذي صفاتهم، وتلك خلالهم لا يمر وقت طويل إلا وقد تعلقت بهم القلوب، وتمازجت بهم الذوات، وتماهت فيهم الأنوات، قد غدوا لنا كل شيء؛ نتنفس من صدورهم، ونروى من معينهم، ونتريض في دروبهم، ونشتم من ورودهم، ونتزيا من برودهم.
فإذا ما غابوا ولو لحظة واحدة كان لغيابهم وخز في النفس، وحسرة في الروح. فإذا ما هجروا تركوا جرحا غائرا، وألما ممضا ثائرا، وبؤسا لا ينقطع، ومرارة لا تنقشع، وبكاء النهار، وسهد الليل.
فيا هؤلاء رفقا بقلوب تعلقت بكم، وأرواح هامت فيكم، ونفوس لا تطلب إلا رضاكم، ولا تحيا إلا من أجلكم.
