فهرنهيت.. خذ صراعاتك إلى المحرقة!
«كانت متعته الوحيدة أن يحرق؛ أن يرى الأشياء وقد التهمتها النيران وامتدت منها ألسنة اللهب، أن يراها وقد اسودت وأصبحت رمادا، بالفوهة النحاسية في قبضته، والثعبان الهائل يبصق سمومه على العالم، عندما كان الدم ينبض في رأسه، ويشعر كأنه مايسترو جبار يعزف كل سيمفونيات الحرق جالبا رماد التاريخ!».
إنه «مونتاج» Montag، رجل الإطفاء الذي أدمن إقامة عرس الحرق اليومي لأفكار تحملها صفحات الكتب، مشيعا إياها قبل بزوغ الفجر إلى حيث تذروها الرياح! هو بطل رواية «فهرنهيت 451» Fahrenheit 451 للقاص الأمريكي «راي برادبري» Ray Bradbury (1920 – 2012)، المنشورة سنة 1953، والتي وصفتها مجلة «نيويورك تايمز» بأنها تحمل مضامين مرعبة؛ «فكم هو مبهر حقا ذلك العالم المجنون الذي تخيله برادبري، والذي يدق نواقيس الخطر كونه يعكس الكثير من ملامح عالمنا».
عن الرواية
تحكي الرواية قصة نظام سلطوي في مدينة أمريكية مستقبلية غشيتها روح العصر التكنولوجية المظلمة، فالناس في ظل هذا النظام لا يقرؤون الكتب، أو يستمتعون بالطبيعة، أو يقضون الوقت بمفردهم رغبة في التأمل، أو يفكرون بشكل مستقل، أو يجرون محادثات هادفة، إنهم بدلا من ذلك يقودون سياراتهم بسرعة كبيرة، ويشاهدون التلفاز بكثافة، ويستمعون إلى الراديو من خلال أجهزة الراديو الملتصقة دوما بآذانهم.
ولدواعي الهيمنة التي تداعب دوما خيالات أصحاب السلطة، يتخذ النظام من التلفاز أداة رئيسة للدعاية السياسية وتشويه الوعي، ويعمد إلى حرق الكتب وكافة المطبوعات على درجة 451 فهرنهايت، أملا في التخلص مما تحويه من موقظات للوعي وإرث يُعلي من قيمة الإنسان، ويذكره بكفاحه من أجل الكرامة والعدالة والحرية والمعقولية منذ أن وطأت قدميه سطح الأرض.
كان النظام واضحا وصريحا بسلطويته وطقوسه، فالكتب بكافة أنماطها محظورة، يجب أن تحرق، وكذلك البيوت التي تحتفظ بالكتب، أو تقوم بإخفائها وتداولها سرا! لقد قرر النظام أن الناس لا يجب أن يستقوا آراءهم إلا عبر تلفازه الرسمي، بعد تشذيب الأفكار المضللة والرؤى الهدامة (فلسفية، دينية، فنية، تاريخية، أو سياسية)، فالمتربصون كثر، وأمام هذا الخطر من الضروري أن يسقط القانون وتُسحق العدالة.
«ما الأدوات إذن؟»
هكذا سأل «مونتاج» رئيسه في إدارة المطافئ، فأجاب: «أدر عقول الناس في آلة الطرد المركزي لتتخلص من كل الأفكار غير المجدية المضيعة للوقت، انشر المزيد من المقالات والرسوم الهزلية في الصحف، أعط الناس صورا أكثر، اشغلهم بتوافه المسلسلات والأفلام، بمباريات الكرة، ببرامج الفضائيات الليلية، فهي ممتعة وتغري بعدم التفكير، ولتكن كلمة مثقف أو مفكر سُبة كما ينبغي لها أن تكون..
تذكر كيف كنت في طفولتك تكره الصبي الذكي في الصف، وتختصه بالضرب والتنمر، إنه خوفنا المبرر من أن نكون أقل من الآخرين! خذ صراعاتك إلى المحرقة يا «مونتاج»؛ النار تأكل كل شيء، النار نقية طاهرة!
أعط الناس مسابقات يربحون فيها وهما إذا ما تذكروا أسماء الأغاني المشهورة أو أسماء العواصم أو الفروق الدقيقة بين صورتين لجسد امرأة عارية، أشعل غرائزهم بقنوات الرقص وأفلام العهر ومجون الإعلاميين والإعلاميات، وقضايا الممثلين والممثلات، اشغلهم بالتصريحات المثيرة، وآراء أشباه الكُتَّاب والدعاة المقززة، عذبهم بالبحث عن حاجات يومهم الضرورية، دعهم يخوضوا ويلعبوا ويحققوا ذواتهم في المنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي، احشهم بالحقائق سريعة الاحتراق حتى يشعروا بأنهم أذكياء!».
ليلة خريفية فارقة
وفي ليلة خريفية فارقة، وبينما كان «مونتاج» عائدا إلى بيته، إذا به يصادف فتاة لطيفة تبلغ من العمر سبعة عشر عاما تدعى «كلاريس ماكليلان» Clarisse McClellan، تفتح عينيه على فراغ حياته بأسئلتها الثاقبة التي ألقتها عليه ببراءة، وبمشاعرها التي جسدت أمامه حبا صارخا للناس والطبيعة.
سألته: «ألا تقرأ ولو كتابا من تلك التي تستمتع بحرقها؟» قال: «لا، هذا ضد القانون!» تتابعت الأسئلة وتتابعت الإجابات، مزيج من المعقول واللا معقول. جذبته رقة الفتاة ومثاليتها، استمع إليها بشغف، وطرح على نفسه السؤال الصعب والمُحرم: «لِم لا أخوض تلك التجربة المحظورة تجربة القراءة؟
لِم لا أندمج تدريجيا في هذا العالم السحري الذي تصفه الفتاة، بل العالم الذي ربما كان حقيقيا متواريا خلف سُحب الوهم التي أطلقها النظام؟!»، وخلال أيام معدودات يكابد مونتاج سلسلة من الأحداث المزعجة، حيث حاولت زوجته «ميلدريد» Mildred الانتحار بابتلاع زجاجة كاملة من الحبوب المنومة، وحينما أراد الاستجابة لإنذار عاجل بأن عجوزا تُخفي مخزونا من المطبوعات في بيتها،
تصدمه المرأة باختيارها أن تُحرق حية مع كتبها، وبعد أيام قلائل، سمع أن «كلاريس» قد صدمتها سيارة مسرعة فماتت! وهكذا ازداد استياء مونتاج من حياته برمتها، وبدأ يغزو عقله الشك حول حقيقة مهمته، وراح يبحث جاهدا عن حل في مجموعة من الكتب التي سرقها من حرائقه وأخفاها داخل فتحة مكيف الهواء!
المشكلة لا تكمن في حرق الكتب
لقد دفعته «كلاريس» إلى اكتشاف عالم آخر، واستنشاق رائحة أخرى بخلاف رائحة المحروقات، تألم في البداية لعدم قدرة عقله المبرمج بالتلفاز على الفهم والاستيعاب، لكنه سرعان ما تأقلم، سرعان ما اكتشف أن في كل كتاب عالما آخر جديرا بالحياة، لقد قرأ فارتقى فعرف أن ثمة فرقا بين ضوء الوعي الباعث للتفكير الناقد، وضوء النيران المدمر للأخضر واليابس!
وحين تقمصت زوجته دور امرأة لوط فأبلغت السلطات بأنه يخفي كتبا ومطبوعات، ليصدر أمر فوري بحرق بيته، فر هاربا عبر خطوط السكك الحديدية إلى الريف، ليندمج مع الثوار الذين اعتزلوا المدنية، أولئك الذين يعيشون وحدهم بعيدا عن عالم عبثي، وقد جعلوا مهمتهم هي الحفاظ على تراث البشرية، لقد حفظ كل واحد منهم كتابا بعينه حتى صار هو الكتاب ذاته،
فهذا الرجل هو التوراة، وذاك جمهورية أفلاطون، هذا هاملت، وذاك آينشتين، هذا داروين، وذاك شكسبير، إلخ. آلاف على الطريق وعلى سكك الحديد المهجورة، متشردون من الخارج لكنهم بمثابة مكتبات من الداخل، يتشبثون بالحياة من أجل المستقبل.. من أجل بشرية فقدت رُشدها!
تنتهي الرواية وقد نشبت الحرب النووية وأبيدت عاصمتهم، فلم يبق من أمل لدى البشر الباقين إلا أن يحاولوا استعادة ما اختزنوه في صدورهم من تراث. إنها باختصار قصة عالمنا المعاصر، لكن الكارثة أن أنظمة اليوم لا تحرق الكتب، بل تحرق العقول! لقد وجد برادبري حلا وإن كان صعبا لحفظ الكتب، فأنَّى لنا بحل يحفظ العقول من محرقة الجهل؟!