الدادية العربية!
«اللا شيء هو كل شيء» تلك هي النتيجة التي استخلصها نفر من الفنانين الأوربيين أطلقوا على حركتهم اسم «الدادية» Dadaism خلال الحرب العالمية الأولى، حين استبد اليأس بالقلوب، وجُن جنون الحرب، فانطلقت مسعورة تلتهم بني البشر، وتدك بمعاولها الوحشية كل ما كانوا قد شيدوا بكدهم وجهودهم من صروح شامخة، وكل ما كانوا يعتزون به من قيم سامية.
عمد الداديون إلى خلق فن ينقض الفن Anti-art، ليناظر هذا الخراب والدمار، تتألف صوره من خِرق بالية، وشظايا أخشاب، وأزرار مهشمة، وفتائل من الخيط، وتذاكر ترام ممزقة، وغيرها من صنوف النفايات.
كانوا يلصقون هذا الحطام على لوحة أو ينصبونه على قاعدة كالتماثيل، ثم يقدمونها للملأ في وقار مفتعل على أنها من آيات الفن الرفيع. أما قصائدهم فكانت عبارة عن كلمات غير مفهومة خالية من المعنى، بقدر خلو حياتهم ذاتها من أي معنى!
كان معتنقو فكر الـ «دادا» Dada (وهي لفظة يصيح بها الأطفال الفرنسيون أحيانا إشارة إلى حصان هزاز من الخشب) يشككون فيما يروجه السياسيون والاقتصاديون من أن حياتنا قد بلغت مرحلة حضارية يحكمها العلم وتطوقها العقلانية، إذ لم تؤد هذه العقلانية إلا إلى مزيد من الدمار والقتل والفوضى والعبثية، ولم يفعل الكبار شيئا بأكاذيبهم سوى أن دمروا حاضر ومستقبل الأطفال وشوهوا بمصالحهم براءتهم، فوضع أحدهم مثلا،
وهو الرسام والنحات الفرنسي المعروف «مارسيل دوشام» Marcel Duchamp توقيعا ساخرا على «مبولة»، وقدمها للناس عملا فنيا يحمل اسم «الينبوع» Fountain، كنوع من الاحتجاج الساخر المتطرف الهادف إلى اكتشاف الذات. نعم، قد يبدو عرض «المبولة» شيئا سخيفا، لكنه كان منطقيا تماما بالنسبة إلى جيل أوربي سئم المثل العليا الغربية التي حملته إلى كل هذا الخراب والتدمير!
اتخذت الحركة من «ملهى فولتير» في أحد أزقة مدينة زيورخ بسويسرا مقرا لها، وفي الرابع عشر من يوليو سنة 1916، وبينما كانت آلة القتل تحصد آلاف الأرواح، وقف مؤسس الحركة، الشاعر الألماني «هوغو بول» Hugo Ball، يتلو إحدى قصائده غير المفهومة، ويعلن البيان الأول للحركة: (لقد فقدنا الثقة في ثقافتنا، كل شيء يجب أن يهدم، سنبدأ من جديد بعد أن نمحي كل شيء، في ملهى فولتير سيبدأ صدام المنطق، الرأي العام، التعليم، المؤسسات، المتاحف، الذوق الجيد، باختصار كل شيء قائم!). وسرعان ما تحولت الدادية إلى واحدة من أكثر الحركات تأثيرا في الفن الحديث، رغم عمرها القصير الذي لم يدم لأكثر من عشر سنوات!
الفارق بين الدادية الغربية والدادية العربية
الدادية يمكن أن تراها اليوم بوضوح في استجابة الشارع العربي لجائحة كورونا، ولو بشكل غير شعوري، كنوع من رد الفعل على عقلانية الساسة ورجال الأعمال والدعاة والإعلاميين وغيرهم عبر عقود طويلة، أولئك الذين سئم العامة قيمهم وسياساتهم وبرامجهم وتأكيداتهم الدائمة بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأن الغد المشرق قد اقترب،
لكنها لم تؤد إلا إلى وطن عاجز يلفظ أنفاسه الحضارية الأخيرة، انطلق رد الفعل من عشوائيات سكنها الفقر والظلم والقهر، لتمتد إلى أولئك الذين حملتهم النظم التعليمية والصحية والأمنية إلى مؤخرة الركب الحضاري، ليتجلى صارخا في فن الخلاعة والبلطجة وأغاني المهرجانات وحفلات العهر اليومية.
لم تقف الدادية عند هذا الحد، بل امتدت إلى المدارس والجامعات والشوارع والمؤسسات لتلحظ فيها من الداديين كبارا يرسخون لقيم الفساد والسرقة واللامبالاة، ويدشنون يوميا مبادئهم الأساسية لتسويق الوهم! الغريب أن ثمة هلعا يكابده الجميع من فيروس الكورونا، لا يوازيه هلع من التعاسة، واليأس، والفساد، والجهل، والفقر، ورؤية الأحلام المشروعة تتحطم.. أليست جميعها تؤدي إلى الموت؟!
الفارق بين الدادية الغربية والدادية العربية أن الأولى كانت حركة شعورية احتجاجية تهدف إلى عالم أفضل، أما الثانية فهي حركة جمعية لا شعورية تدميرية تقف بنا جميعا على حافة الهاوية! الأولى كانت حركة عقلانية ضد العقل، وكأن العقل يراجع ذاته، أما الثانية فهي حركة لا عقلانية تغتال العقل، وكأن العقل ينتحر قهرا ويأسا!