مقالات

الإعلام ومشاهد العنف

لا شك أن الإعلام أحد المكونات الرئيسية للفكر الإنساني، وأحد أهم دعائم صناعة العقول، فدوره لا يقل عن دور التعليم، بل قد يكون أهم وأخطر، لأنه سيصل القرى والنجوع وكل شبر من الأرض التي يسكنها بشر، خاصة بعد انفتاح السماء الإعلامية ووصول التقنيات الحديثة إلى كل شبر تطاله الحياة.

لأجل ذلك فإن على الإعلاميين دور كبير في التوعية بالمخاطر التي تحيط بنا، وفي فتح نوافذ الأمل لغد تشرق عليه شمس العدالة والحرية والكرامة الإنسانية.

العدالة في أحقية الحياة لكل البشر وفي حقوق التعليم والتمريض والتثقيف، والحرية في الاعتقاد والفكر مع احترام معتقد وفكر الآخرين، والكرامة الإنسانية في العيش الكريم وفق المقتضيات التي أرادها لنا الخالق سبحانه. تلك هي أبسط حقوق بني البشر، وتلك هي النوافذ التي على الإعلام فتحها والتأكيد عليها والثقة في تحقيقها.

دور الإعلام في التعامل مع مشاهد العنف

ليس هذا كل المطلوب، ولكن وفي هذه الظروف العصيبة، وتغليبا للمصلحة الوطنية والمصلحة الإنسانية على حد السواء، فالواجب يحتم على الإعلام عدم إذاعة أي مشاهد للعنف ترتكبها تلك الفئات الباغية التي استمرأت الدماء وغرقت فيها،

المسئولية الوطنية والأخلاقية تقتضي حذف هذه المشاهد فورا من على المواقع العالمية مثل الياهو واليوتيوب وتويتر وغيرها من مواقع تبث هذه المجازر اللا آدمية ليل نهار، فتلك هي مسئولية إنسانية بالمقام الأول تقع على عاتق أصحاب تلك المواقع العالمية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وعلى الإعلام المحلي أيضا -الحكومي والخاص- ألا يعرض تلك الصور في المستقبل، لأنها تضر أكثر مما تنفع، وتفسد أكثر مما تُصلح، نعم هي تذكرنا بجرائم وحشية لمصاصي الدماء اللا آدميين، وتذكرنا بضرورة المواجهة الملحة لهم  ولأشباههم من الذهانيين والمرضى النفسيين، وتدفعنا نحو الثأر الذي لا بد منه ولا تنازل عنه.

فهي تقوم بالشحن المعنوي والنفسي لنا، تمنينا بالثأر وتدفعنا نحو الانتقام، وتحثنا على الإقدام لا التراجع، على التضحية بحياتنا لأجل حياة الأجيال المقبلة، ولكنها تسيء إلينا كثيرا وتضر أكثر مما تنفع.

أثر المشاهد المؤلمة على أهالي الضحايا والأبناء

فهي أولا تذكر أهالي الضحايا بما فُعل بذويهم، ولا يخف على أحد مدى الضرر البالغ الذي يلحق بهم جراء ذلك، بل منهم من يصاب بصدمات نفسية وعصبية جراء هذه المشاهد المؤلمة للضمائر والمؤرقة للأفئدة، وقد سمعنا مؤخرا تعرض بعض زوجات شهداء مصر على يد داعش في ليبيا لنوبات عصبية وأزمات نفسية شديدة أودعتهم الأسرة البيضاء في المستشفيات.

أضف إلى هذا الأثر النفسي السلبي والسيء على نفوس هؤلاء الضحايا وأولادهم وذويهم، ذاك الأثر الذي لا يقل سوءا الذي تتركه تلك المشاهد على نفوس أبنائنا من النشء الصغير، حيث تُقلص هذه المشاهد عندهم مبادئ الرحمة، وتقوض أركان القيم، وتزعزع في نفوسهم الثقة في هذا الوجود الإنسانى بأسره،

لأنهم يرون وحشية مفرطة لا تستطيع أخيلتهم الإحاطة بها رغم خصوبتها، لأنها مشاهد قاسية لم يكونوا يتوقعونها، ولم يكونوا على أدنى استعداد لتقبلها، إنها تساهم في تربية جيل مزعزع نفسيا، مهزوم إنسانيا، مقتول روحيا ومعنويا، جيل يتربى على مشاهد القتل والعنف والإثم والبغي، فكيف يكون مصيره؟ وكيف تتشكل رؤيته لتلك الحياة البائسة.

التحريم الأفلاطوني

إن أفلاطون حرَّم على أطفال دولته اليوتوبية دراسة التاريخ الذي يحتوي على العنف والقتل والحروب، وأوصى باستبدال ذلك بدراسة السلام، لأن الأصل في هذا الوجود هو السلام لا الحرب، وبالتالي فعلينا أن نربي أولادنا على تلك الثقافة، وأن ننزع من طريقهم كل ما يضادها ويعاديها.

ذاك التحريم الأفلاطوني كان لمجرد الدراسة النظرية، فما بالنا لو رأى أفلاطون اليوم تلك المشاهد المنتشرة في السماوات المفتوحة، والمواقع العالمية التي لا رحمة فيها ولا قلب لها، إنها مشاهد كفيلة بتربية جيل مشوه أخلاقيا، ومضطرب نفسيا، ولا يعلم عقبى تلك التربية إلا الله، يقول (إريك فروم) في كتابه

[الإنسان المغترب] ما نصه: “إن العنف لا يتولد إلا عن العنف سواء كان ماديا أو رمزيا، فمشاهدة الأطفال للعنف حتى ولو عبر التمثيل واللهو، تساعد على إغراقهم في تلك المشاهد وتشبعهم بها لتصبح هي مناط أعمالهم وقمة أمنياتهم، فتصبح ممارستها بالنسبة لهم هي الأمل في مستقبل البطولة المزيفة والرجولة المصطنعة“.

إنني أوافقه تماما، وأدق ناقوس الخطر، وأهيب بضمائر الوسائل والمواقع الإعلامية العالمية، استمرار عرض تلك المشاهد يضر يا سادة ولا ينفع، وستساهم هذه البشاعة اللا أخلاقية في صناعة جيل الغاب، جيل مزعزع نفسيا وغير مستقر انفعاليا،

لأنها مشاهد قاتلة لكل معاني البناء، فهل يستجيب السادة القائمون على تلك المواقع ويحذفوا كل مشاهد العنف؟ ليقدموا بذلك خدمة جليلة للإنسانية تحسب لهم، كلي أمل في تلك الاستجابة وكلي يقين في قناعة الضمائر الحية بذاك النداء.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضا:

كيف يُوجه الإعلام العقل الجمعي؟

الحقيقة في عصر الإعلام

الإعلام وأشباح الكهف

د. محمد ممدوح علي عبد المجيد

حاصل على درجة دكتوراه الفلسفة اليونانية جامعة القاهرة ودكتوراه الفلسفة الإسلامية والتصوف – جامعة المنصورة وعضو الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة وحاصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الفلسفة وعلم النفس لعام 2020م