الخيال الفرانكنشتايني
المأساة أن العلم لم يكن هو الصانع للخيال البشري، ولكن الخيال البشرى هو الصانع للعلم. الخيال البشري الجامح الذى لا حدود له والعلم الناتج عن هذا الخيال هو خير تعبير عن هذا الجموح الذى لا حدود له، ورواية فرانكنشتاين للمؤلفة البريطانية “ماري شيلي” والتي ألفتها عام 1818م في محاولة أدبية منها لفهم سر الحياة والموت والفارق بينهما.
خاصة بعد تعرض “ماري شيلي” مؤلفة الرواية لحادثة أثرت فيها وهي فقدان ابنتها الصغيرة الحبيبة على قلبها. ابنتها كما تقول “ماري شيلي” لم تعانِ من أى مرض. وفي يوم ذهبت لإيقاظها من النوم وجدتها وقد فارقت الحياة و الجثة التي جمعها بطل روايتها الدكتور ف”يكتور فرانكنشتاين” ترى فيها ابنتها التي كانت تتمنى أن تقوم من الموت.
بطل الرواية هو الدكتور “فيكتور فرانكنشتاين” هو طالب في الطب يبحث عن سر الحياة ويدرس التشريح ويبحث في التحلل الطبيعي للجثث ويتعمق في الحدود فيما بين الحياة والموت. الدكتور “فيكتور فرانكنشتاين” بطل الرواية يملك روح طيبة فهو يريد أن يفيد الإنسانية بعلمه.
له عديد من القدرات الإبداعية لدرجة مايعرف بالجنون الإبداعي. يتجلي ذلك فيما هدته أفكاره لتكوين جسم بشري من أعضاء جمعها من جثث حصل عليها من نبشه للقبور، وبالفعل كوَّن هذا الجسم البشري وعلى نحو ما دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة.
محور الرواية “الإنسان المُصنَّع”
ففي الرواية يقول الدكتور “فيكتور” في ليلة كئيبة رأيت نتاج عملي جمعت كل مواد الحياة من حولي لبث شرارة الحياة في الجثة الهامدة تحت قدمي. وعندما تحركت الجثة ورآها الدكتور “فيكتور” ونظر في عينيه لم يرى فيها الحياة وإنما الموت ففزع الدكتور “فيكتور” وخاف، وقال ياللهول ما الذي صنعته؟! فخرج من مختبره خائفا مما صنع رافضا له. هنا محور الرواية في فكرة الإنسان المُصنَّع الذي رفضه صانعه أو والده.
الإنسان المُصنَّع والذي خرج للحياة يملك من الوداعة والروح الطيبة. كالطفل الذي لا تشوبه شائبة، إلا أن الإنسان المُصنَّع ينقلب بعد ذلك لوحش لايرحم لرفض الناس له وخوفهم منه لشكله القبيح ومنظره المُنفر. ذلك وفقًا للنظريات التي تذهب أن الإنسان يولد بالطبيعة طيِّبا متسامحًّا رحيما ولكن الظروف التي تحيط به بعد ذلك تغير الصفات فيه إلى العكس.
وبعد أن يهجره الناس يهرب الإنسان المُصنَّع من المختبر إلى الغابة ويعيش كحيوان بري ويتطور. إنه يجسد تاريخ التطور البشري من الولادة وفهم الحواس والنظر إلى القمر والتفكير في تعاقب الليل والنهار،وأثناء حياته في الغابة اكتشف شكله عندما رأي وجهه على صفحة الماء. إنه ليس نرجسي الذي أحب شكله وجُن به.
لقاء بين الإنسان المصنوع والدكتور “فرانكنشتاين”
إنه الإنسان المصنوع المسكين الذي نفر من شكله، ويجول في الغابة مسكينًا جريحًا حتي يجد كوخًا في الغابة يسكنه البشر فيختبئ منهم في جانب من الكوخ لا يرونه فيه، ويراقبهم من حيث لا يرونه ويتعلم منهم اللغة بمراقبته لهم وهم يتكلمون ويراهم لطفاء طيبون وهم يتعاملون مع بعضهم البعض، ويظل أياما حريصًا على مراقبتهم دون أن يرونه، ويقول لنفسه لو أظهرت نفسي لهم ربما يتقبلونني فيما بينهم؛ فهم رحماء ولطفاء. قد ينوبني من لطفهم ورحمتهم نصيب. فيُظهر نفسه لهم فيفزعوا منه ويخافون ويفرون هاربين لشكله القبيح؛ مما جعله يحرق كوخهم عقابا لهم على رفضهم له .
في مكان ما من جبال الألب على النهر الجليدى وسط الأمواج المتجمدة الضخمة لمح فجأة الدكتور “فرانكنشتاين” من بعيد إنسان يتقدم أمامه مسرعًا؛ فيعرف أنه الكائن البائس الذي صنعه وعند مقابلته يقول له الدكتور “فيكتور” في نوبة من الغضب والكراهية أطلقت لسانه عليه؛ ملعون هذا اليوم الذي رأيت فيه النور وملعونة هذه الأيدي التي صنعتك. لقد سببت لي بؤسًا يفوق الوصف. ارحل! اعفني من رؤية منظرك الشائن!
فرد عليه الإنسان المصنوع؛ “كنت أتوقع هذا اللقاء يا دكتور، أنت تظلل جميع الناس بعدلك ولطفك ورحمتك فلا تحرمنى من ذلك اجعلني سعيدا ولسوف أعود فاضلا مرة أخرى؛ اجعلنى آدم.”
يسمع الدكتور “فيكتور فرانكنشتاين” من صنيعته قولة “اجعلني آدم” فيقرر أن يصنع له حبيبة لتملأ وحدته كما صنعه، فيصنع له حواء من أعضاء مختلفة ويزودها بمادة الحياة فتدب فيها الروح، ولكن تظهر المشكلة الجنسية ويخشى الدكتور “فرانكنشتاين” من أن تميل الحبيبة المصنوعة له هو ولا تميل للإنسان المصنوع فيتخلص منها أمام إنسانه المصنوع فهو لا يرفض المخلوق الذي خلقة فحسب بل يقتل شريكة المخلوق أيضًا.
مصير الدكتور “فيكتور فرانكنشتاين”
من هنا يقرر الإنسان المصنوع طالما أنه ليس له شريكة فإنه سيقضى على شريكة الدكتور “فرانكنشتاين”، وبالفعل قتل “إليزابيث” خطيبة الدكتور “فرانكشتاين” في ليلة زفافهم. لقد سمع صوت من الغرفة في ليلة الزفاف فصعد الدكتور “فرانكشتاين” فوجد خطيبته “إليزابيث” على السرير جثة هامدة، ونظر للأعلى ناحية النافذة، و رأى أقبح وجه؛ ذلك الإنسان المصنوع يشير لحبيبة الدكتور المقتولة بإصبعة المُشوه وعلى وجهه ابتسامة غاضبة متشفِّية من الدكتور “فرانكنشتاين” .
تختار “ماري شيلي” الخاتمة لتكون في القطب الشمالي.
يطارد الدكتور “فرانكشتاين” المفطور قلبه على وفاة حبيبته و نفسه مملوءة برغبة في الانتقام من صنيعة القاتل لحبيبته. وعندما كان على بعد ميل منه سمع الدكتور “فيكتور” صوت الماء الهادر، صوت أمواج البحر التي حالت بينه وبين صنيعته، مما قتل على أثر ذلك ضحية لهوسه وانعدام مسئوليته تجاة صنيعته، مما تذكرنا الرواية بأن مصير الدكتور “فيكتور فرانكنشتاين” هو نفس مصير “برومثيوس” الأسطورية السارق لنار المعرفة وصنع البشر من الطين مما أهَّله للعقاب الإلهي.
وأخيرًا المخلوق المصنوع متأوهًا لموت صنيعة الدكتور “فرانكشتاين” إلى أن ينزوي المخلوق المصنوع على نفسه، فلم يتبقَ له شئ بعد موت من كان يطارده. فلم يعد له إلا أن يرحل في الظلام والجليد وهذا كل شئ.
الحالة العلمية وقصة الدكتور “فرانكنشتاين”
وإذا ما أسقطنا قصة الدكتور “فرانكنشتاين” وصنيعة على الحالة العلمية؛ نقول أن “ماري شيلي” المؤلفة للرواية استطاعت أن تتنبأ بأن العلماء بخيالهم الفرانكشتايني سيخلقون الوحوش العلمية، والتي لن يستطيعوا السيطرة عليها. هل توصل “ألفريد نوبل” بالخيال الفرانكشتايني المجنون للديناميت؟!
والتي كان يقصد أن تستخدم في النواحي المدنية، إلا أن البشر استخدموها كمتفجرات في الحروب. لقد تحول الديناميت لوحش كان من الصعب السيطرة عليه. وانتقدت صحيفة فرنسية “ألفريد نوبل” لاختراعة الديناميت الذي تسبب في مقتل الكثير من الناس؛ مما جعله يتبرع بجزء كبير من ثروته لمن يقدم للبشرية ما يفيد لا مايضر في كل المجالات.
هل توصل العلماء بالخيال الفرانكنشتايني للمادة النووية المشعة؟! والتي كان الغرض منها علاج الأمراض وتوليد الطاقة؟! إلا أنها استخدمت في صناعة الوحش المصنوع الذي كان من الصعب السيطرة عليه وهي القنبلة الذرية، والتي كان لها ضحاياها في “هيروشيما وناجازاكي” ومازالت البشرية في خوف وترقب من هذا الوحش.
هل ما يقوم به العلماء اليوم من صنع الروبوتات وتطويرها بالشكل الذي معه يهدد مستقبل البشرية ومزاحمتها لهم في العمل في أماكن مختلفة من المصانع وحتى الفنادق في الاستقبال وخدمة الغرف؟!
إن هذه المنتوجات البشرية، وهي حصيلة الخيال البشري العلمي لتقول للبشر -اليوم- كما قال الإنسان المصنوع للدكتور “فيكتور فرانكنشتاين” أنت صانعي ولكن أنا سيدك!