ذكرنا في المقال السابقة رفض البعض لفكرة وجود الغزو الثقافي أو التقليل من تأثير الغزو الثقافي، وفي هذا المقال سنعرض لتجربة فرنسا في التأكيد على وجود الغزو الثقافي والهجمة الثقافية التي تتعرض لها فرنسا وأوروبا وتحذير المفكرين الفرنسيين من خطرها على المجتمع الفرنسي والهُوية الوطنية الفرنسية.
المثال الفرنسي
يكشف لنا المثال الفرنسي كم هائل لعدد من تصريحات وتحذيرات رجال الفكر والسياسة الفرنسية، في حديثهم عن الغزو الثقافي الأمريكي في تبديل الهوية الثقافية المميزة لفرنسا وأوروبا.
حيث تشير بعض الدراسات أن الغزو الثقافي الأمريكي قد ظهر في المجتمعات الأوروبية في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث فتحت أوروبا أبوابها أمام المشاريع والاستثمار الأمريكي، وتعد تلك المرحلة هي بداية تنفيذ عمليات الغزو الثقافي المتستر تارة بالاستثمار الاقتصادي وتارة أخري بمشاريع التنمية والمساعدات، وقد ظهرت النتائج سريعًا.
فنجد في فترة نهاية التسعينيات أن فرنسا رصدت بمفكريها الخطر الداهم لهذا الغزو المُتمثِّل في الهجمة الثقافية الذي يقودها ( الحليف الأمريكي) مما دفع الكثير لرفع الصوت بخطورة الأمر، فقد صدرت كتب فرنسية كثيرة حول هذا الموضوع، فعلى سبيل المثال صدر كتاب للمؤلف ” هنري غوبار” تحت عنوان ” الحرب الثقافية ” ، كما صدر كتاب ” فرنسا المستعمَرة ” -بفتح الميم- للكاتب الفرنسي “لجاك تيبو “.
تحذير الصحف الفرنسية
كما كان للصحف الفرنسية نصيب من هذا الصوت المرتفع في مواجهة هذه الهجمة الثقافية على المجتمع الفرنسي؛ فقد أصدرت مجموعة من الأبحاث والمعالجات حول القضية ، كمقال رئيس تحرير جريدة ” لوموند ” الفرنسية الشهيرة،
في ( العدد 4-7-1980 ) تحت عنوان ” حيث تنتصر أمريكا ” تكلم فيه عن نفس مضمون تلك الحرب الثقافية، حيث يشير إلى الصعوبات التي تواجهها أمريكا عالميًا، لكن باستثناء الميدان الثقافي الذي تتقدم فيه، حتى أصبحت تهدد بلدان العالم في هويتها الثقافية.
فقد كانت تلك الأصوات تعبر وتحذر وتلفت النظر إلى مخاطر الغزو الثقافي الأمريكي للمجتمع الفرنسي والدول الأوروبية، حيث التهديد المباشر للهُوية الثقافية، ومسخ تدريجي للمواطنين الأوربيين وتحويلهم أشباه ومقلدون لنموذج الحياة الأمريكية،
حيث الملابس الجينز والكوكاكولا والهامبرغر والديسكو الصاخب والسوبر مان والعنف والانحلال الجنسي والعبثية واللامبالاة ، حيث يضيع الشباب والمجتمع ويكونون ضحية الإعلانات التجارية المثيرة.
هنري غوبار” وحديثه عن الحرب الثقافية”
وقد عبر ” هنري غوبار” مؤلف كتاب ” الحرب الثقافية ” تعبير – المطرقة الأمريكية – التي تضرب وتدق بقوة منذ عام 1945 م حتي تحقق استسلاما ثقافيا لفرنسا و أوروبا في أغلب الميادين إن لم تكن كلها، ويضيف قائلا وباسم الجديد دائما يتم استيراد آخر التقليعات الثقافية الأمريكية.
كما يضيف ( إن هذه الحرب هي أخطر وألعن من الحرب الساخنة، لأن الأخيرة تعبئ الجماهير بينما الأولي تشل الإرادات حيث تتسلل بمكر وتدريجيا ، وتدق بمطرقتها بإلحاح واستمرار على الأذهان والعقول والأذواق فتسممها، ليصبح المرء عَبد لقيم وأخلاقيات مستوردة غربية).
وتستمر النتائج الإحصائية للدراسات في ذلك الوقت عن هيمنة اللغة ( الإنجليزية ) على الفضاء العلمي الفرنسي حيث 60% من الباحثين في البلدان الناطقة بالفرنسية يستعملون مصادر إنجليزية، كما أن 615 بحثا أعدَّه 586 باحث فرنسي لم ينشر منها بالفرنسية غير 142 بحثا فقط.
على الصعيد السياسي
وعلى الصعيد السياسي نُقِلَ عن الرئيس الفرنسي ” ديستان ” سنة 1976 قلقه لتدهور الإنتاج الفرنسي وطغيان الإنتاج الأمريكي في التليفزيون الفرنسي وأمركة البرامج وخطر ذلك على المجتمع.
وفي اجتماع لخبراء ومتخصصين في الإعلام ، شارك الرئيس الفرنسي ” ميتران ” وأعرب عن خشيته على الهُوية الفرنسية وقال أنها في خطر. فمن مجموع 125 ألف ساعة بث تليفزيوني فرنسي لا تزيد حصة الإنتاج الفرنسي على 20 ألف ساعة فقط والباقي أمريكي.
بعد هذا الرصد للمثل الفرنسي والتشابه بينه وبين باقي المجتمعات في أوروبا وهما في منزلة الحليف للولايات المتحدة؛ فما هو الحال بمن يسعى للتخلص من الهيمنة الاستعمارية الأمريكية؟! كيف هو الحال في بلدان تعتبرها أمريكا حق لها بثرواتها وشعوبها؟!
إن الأمر كما هو واضح تحديد صريح وخطير يهدد نسيج المجتمع بكل أنساقه، والتي تُعد تحديد صريح للسلم والسلامة المجتمعية .