أسرة وطفل - مقالاتمقالات

انفصال الطلاق والشرف

لا زلنا ونحن في القرن الحادي والعشرين نتحدث بذات عنجهية القرن السابع الميلادي، بذات النزعة التي هي أشد من الجاهلية الأولى، تحكمنا ذات الفلسفة العقيمة، ميراث من العادات والتقاليد لم تفلح الحضارات المتعاقبة والمدنيات المشيدة بأعجب الطرز في اقتلاعه، كل ما هنالك تبرير بالقول )وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا(، وأين العقل يا سادة؟! وأين “أنتم أعلم بشؤون دنياكم”؟ بل وأين الموضوعية؟ وأين حكمة العقل ورشد المنطق؟!

تتطلب قضايانا قدرا من الفهم والموضوعية ومناقشتها بتجرد ومصداقية، لنعيد ترسيم مفاهيمها وحدودها ومضامينها السليمة في أطر صحيحة يقبلها العقل وتؤمن بها الفطرة، لا أن نواجهها بالنظرة الموروثة دون فحص أو نقد أو إعمال للعقل، لأننا بذلك نضل الطريق، ونزيد أنفسنا أعباء فوق الأعباء.

قضية الطلاق

من تلك القضايا التي ورثنا حكمها وصدقنا عليه، النظرة غير الموضوعية وغير العقلانية بل وغير المبررة للطلاق، خاصة في عنصره الأضعف وهو المرأة، تلك الشماعة التي غالبا ما نحملها أوزارنا بلا ذنب وبلا جريرة، نحملها أخطاءنا دون أن تخطئ وأوزارنا دون أن تذنب،

بل بلغت بالعنصر الذكوري الزراية بالعنصر النسائي في كل قضايا المجتمع، ففي الطلاق الشيء الذي يبيحه الشرع ويقبله العقل وترتضيه الفطرة تكون الخسارة في جانب المرأة أكثر مما في جانب الرجل، بل حتى نظرة المجتمع تتجه ناحية المرأة شذرا ولوما وزراية، في حين لا تطال الرجل أدنى زراية، بل هو في مأمن من أي لوم.

فالمجتمع عادة ما ينظر إلى المرأة المطلقة على أنها فاشلة، عالة على المجتمع، امرأة بلا مستقبل، بلا هوية، بلا أهمية تذكر في المجتمع، هي السبب في ضياع هيبة الأسرة، بل وضياع شرف العائلة، فطلاقها يؤثر سلبا على زواج بقية نساء العائلة، كما يلحق بالعائلة العار، لذا فالفرار من الطلاق يصبح واجبا على جميع أفراد العائلة (عائلة الأنثى بالتحديد)،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لدرجة قد يقبلون معها موتا بطيئا لابنتهم حال استمرار زواجها دون أن يقبلوا بطلاقها، بل إنهم يحكمون بتلك النظرة الرجعية على المرأة بأحد حكمين، كلاهما أقسى مرارة من الآخر، إما القتل البطيء تحت نيران الزواج العاصفة الهادئة، وإما قتلا سريعا بالرصاص أو بأي وسيلة على يد أحد أفراد عائلتها حال طلاقها.

الطلاق والشرف

نعم، لست مبالغا إذا قلت أن بعض حالات الطلاق تنتهي إلى قتل المرأة باسم الشرف في بعض بلداننا العربية والإسلامية، وما دخل الشرف بالطلاق وما دخل الطلاق بالشرف؟ هذا شيء، وذاك شيء مغاير تماما لا تربطهما صلة، لا طباق ولا توافق ولا حتى تضاد، بل هي علاقة انفصال لا تلاقي فيها.

الطلاق حق يكفله الإسلام ويكفله القانون المادي والأخلاقي والفطري والعرفي، كل أنواع القوانين تبيح الطلاق، فكيف يكون اعتداء على الشرف ؟! كيف نحكم على امرأة ربطتها علاقة زواج فاشلة بزوج ربما يكون هو السبب المباشر في الطلاق بضياع شرفها؟! هل أقامت علاقة غير شرعية مع أحد الرجال الآخرين؟

إنها زوجة، ثم أصبحت مطلقة، تلك هي الحكاية ببساطة، فما الداعي إذن إلى ازدرائها أو التقليل من شأنها؟ ما الداعي إلى تلك النظرة المجتمعية القاتلة لها؟ ما الداعي إلى ربط الطلاق بقضية الشرف ؟ فهو ضياع لشرف الأسرة والعائلة، وضياع لشرف صاحبته، وهكذا تلقى التهم على الضحية التي كتب عليها إما الصبر على نار زوج لا تجاور ناره، وإما القتل بأي وسيلة إن لم يكن بألسنة وأعين المجتمع فبنار العائلة.

“سامية ساروار”

أقول هذا والألم يعتصر قلبي إذ قرأت عن واقعة لم يستطع عقلي أن يستسيغها حتى الآن، فتاة جميلة ذات عقل ورشد اسمها “سامية ساروار” تنتمي لأسرة أرستقراطية متعلمة، فوالدها رجل أعمال ناجح في بيشاور -وهي عاصمة الإقليم الحدودي الشمالي الغربي في باكستان، ووالدتها طبيبة، بما يعني أن المستوى العلمي والثقافي للأسرة مستوى محترم جدا وناجح جدا، وهي محامية، يدلل على ذلك أن والدها قد انتخب في عام 1998م ليكون رئيسا لغرفة سرهارد للتجارة والصناعة.

وفي أثناء دراستها للقانون تقدم إليها ابن خالتها ويدعى “عمران صالح” ويعمل طبيبا، تقدم لخطبتها ورحب به الأهل، ووسط جمع من الأرستقراطيين رؤساء وزراء باكستان المتعاقبين، كُتاب وصحفيين، وزراء وأعضاء برلمان، وجمع من صفوة رجال الفن والسياسة والمجتمع، تم الزفاف في مدينة “بيشاور”، وسط توقعات من الجميع بنجاح هذا الزواج لأنه قائم على التفاهم والثقافة الواسعة، إذ أن طرفاه قد حصلا على شهادات عليا في الطب والقانون، وإذ أن أسرتيهما يتمتعان بذات السعة العلمية والثقافية.

ولكن على عكس كل التوقعات فشل الزواج، حيث خلا من الحب والعاطفة التي تجمع الطرفين، على الرغم من أنهما أنجبا طفلين وسط مشكلات في التفاهم والأريحية والود والتراحم لم تنته، حتى استحالت بينهما الحياة لدرجة كبيرة.

حملت “سامية” من أنباء هذا الانفصال العاطفي الكبير، وتبعه الانفصال الحياتي بينها وبين زوجها  إلى والديها، إلا أنهما قالا لها على سبيل الشرط: “بوسعك أن تحصلي على أي شيء تريدينه إلا الطلاق”.

رفض الأهل للطلاق

وماذا عسى أن يكون في ظل حياة زوجية فقدت السكن والمودة والرحمة بين طرفيها إلا الطلاق؟! هل يوجد من حل آخر لا نعلمه نحن؟!

لقد قام رفضهم لفكرة الطلاق على يقينهم الجازم بأن الطلاق سيهدد شرف العائلة كلها، سيهدد مستقبل بنات العائلة، بل وسيهدد المستقبل المهني للوالدة والمستقبل السياسي للوالد بناء على نظرة متخلفة من المجتمع للمطلقة!!

وهم وقعوا أسرى لهذه الرؤية المجتمعية الظالمة، لم يحل تعليمهم ولا مستوى ثقافتهم دون الانحناء والتأثر بتلك النظرة السلبية، فوقعوا فريسة لها.

وارتفع سقف الانفصال بين الزوجين لدرجة جعلت من الزوجة ضيفا دائما على والديها لمدة تجاوزت عاما كاملا، كان هذا الانفصال غير الرسمي بمثابة إعادة لشحن الوقود الإنساني من المشاعر الإنسانية لدى السيدة “سامية” حيث أعجبت بشخص آخر  رأت فيه بعضا من مبادئ الإنسانية التي أهدرها المجتمع،

وأثمر ذلك الإعجاب حبا بين الطرفين، لعلمهما وتيقنهما سويا من أن حياتهما القديمة في سبيلها إلى الانتهاء، ولتأكدها في أنها لن تستطيع أبدا معاودة العيش مع زوجها الذي تمنت منذ بدء الزواج ألا تربطها به صلة.

الفرار من الزوج والأهل

وأرادت إقناع والديها بضرورة الطلاق لبدء حياة جديدة قد تزورها السعادة وقد يحيط بها الأمان النفسي، توسلت إليهم بدموعها تارة، وبمنطقها أخرى، دون أن تفلح في إثنائهما عن عزمهما ورفضهما لفكرة الطلاق، فلم يقبلا فكرة إمكانية نهاية حياة فاشلة وبدء أخرى قد تكون سعيدة،

لم يقبلا أن من حقها كأنثى الطلاق من زوج اعتدى عليها جسديا وبالغ في إيذائها نفسيا، ثم لم ترتبط به وجدانيا، إن ثمة فراغا وجدانيا من حقها أن تشغله، من حقها أن تحب وتكره وتطلق وتتزوج، هذه حقوق طبيعية  فطرية أقرها العرف والقانون والفطرة في حين رفضها الأهل ووقفوا لها بالمرصاد.

ولأن الوالدين رفضا كل الحلول، فقد استغلت فرصة ذهابهما لأداء مناسك الحج في عام 1999م وفرت إلى لاهور لتعيش في “داستاك” وهو الملجأ الوحيد الموجود في لاهور والخاص بالنساء اللاتي تم الاعتداء عليهن، وكانت في هذه الأثناء قد اتخذت محامية للدفاع عنها لترفع لها قضية طلاق للضرر أمام المحاكم الباكستانية، هذه المحامية متخصصة في حقوق الإنسان وتُدعى “هينا جيلاني” وهي من أعلام النضال الباكستاني لأجل حقوق الإنسان ومناصرة قضايا المرأة.

كان من المفترض أن يفهم الوالدان تلك الإشارة، حيث هربت ابنتهما فرارا من جحيم زوجها المطارد لها عبر عصى الشرف والعائلة، وجحيم والديها اللذيْن يرفضان لها أي حل سوى الموت البطيء في معية الزوج، ولكنهما لم يفهما تلك الرسالة، بل عقب عودتهما من الحج، فكرا في الانتقام من ابنتهما الوحيدة، لا لأنها زنت، ولا لأنها اغتُصبت، فقد يكون القتل رغم خطئه منهجيا وفكريا ودينيا مقبولا، ولكن لأنها أرادت الطلاق.

لقد ارتأيا أن عقوبة طلب الأنثى للطلاق والخلاص من زيجة فاشلة هي الموت، على اعتبار أنها فرت من موت محتمل تحت سياط الزوج، لتأتي إلى موت محقق عبر نيران الوالدين.

قتل سامية

وقام الوالدان بالاتصال بالمحامية التي تولت رفع قضية طلاق لـ”سامية” وأوهماها بقبول فكرة الطلاق، وطلبا منها إبلاغ سامية بتلك الموافقة وأن والدتها ستأتي لمقابلتها لإعادة لم شمل الأسرة من جديد.

وفرحت سامية بهذه الأخبار السعيدة دون أن تشك في صدق النوايا، وأصبحت منتظرة للحظة التي ترتمي فيها في حضن والديها من جديد، لقد افتقدت كل معين ممكن للحنان، افتقدته في زوجها، ثم افتقدته في أسرتها التي وقفت ضد رغبتها في الطلاق لبناء حياة جديدة، وأخذت تُمني نفسها بذاك اللقاء الذي يجمعها بوالدتها، تلك التي جاءت في الموعد المحدد إلى مكتب المحامية، جاءت متكئة على ذراع رجل ملتح قصير القامة، بزعم أنها مريضة وأنه يساعدها على الحركة،

وبمجرد دخولها المكتب أخرج سائقها ويدعى “حبيب الرحمان” مسدسا وأطلق النيران على سامية ساروار ليصيبها في رأسها محتضنة الرصاص بدلا من حضن أمها، وفي خضم الذعر الذي أعقب الحادث اختطف عم سامية ويدعى “يونس ساروار” -والذي كان ينتظر بالخارج- إحدى المساعدات القانونيات من المكتب، وفر بها مع والدة سامية في سيارة أجرة، قالت تلك القانونية بعد ذلك أن السيدة والدة سامية ساروار كانت هادئة ورابطة الجأش أثناء علمية الهروب وقد تركت وراءها جثة ابنتها المقتولة غارقة في دمائها وكأنها غريبة عنها.

هذا المشهد منذ البداية وحتى مأساوية نهايته يلخص مأساة الطلاق الوجدانية والعملية في بعض بلداننا العربية والإسلامية، مأساة وجدانية حيث فكرة الزواج الكاثوليكي الذي لا انفصال له حتى ولو كره الزوجان استمراره، ومأساة عملية حيث تنتهي القصة عادة بضياع شامل للضحية وهي عادة ما تكون الطرف الأضعف في المعادلة وهي المرأة.

بين نظرة المجتمع والدين للطلاق

ففي بعض بلداننا الإسلامية ينظر القوم إلى الطلاق على أنه وصمة عار، وتتجلى تلك النظرة في آثارها، حيث يرفض الشباب الإقدام على الزواج من المطلقات وتظل المطلقة حتى ولو كانت في ريعان شبابها وتتمتع بحسن الخلق والأصل الطيب، منتظرة لزوج إما طاعن في السن وإما ذي عيال، وإما ذي ظروف اجتماعية قاسية،

لترهن الضحية من جديد حياتها في مأساة رجل غير مناسب لها تماما، لا لشيء يرجع إلى ذاتها أو أصلها وإنما لحكم تعسفي أصدره المجتمع ضدها، فنظر إليها على أنها مطلقة بما يعني سلبها آدميتها وكرامتها والتقليل من شأنها والانتقاص من شرفها دون أن يدركوا خطأ تلك النظرة عقلا وشرعا.

عقلا لأن المطلقة امرأة فشلت حياتها مع زوجها، قد يكون الزوج هو السبب المباشر في هذا الفشل، وقد يكون الأهل،  وقد تكون الظروف الاجتماعية أو الاقتصادية، والتقارير الرسمية تشير إلى وقوع نسبة كبيرة من الطلاق لأسباب لا تتصل بالمرأة من قريب أو من بعيد.

وشرعا لأن مؤسس هذا الدين (ص) تزوج المطلقات والأرامل، فتزوج من السيدة أم سلمة (رضي الله عنها) وهي أرملة ومعيلة، وتزوج من السيدة خديجة (رضي الله عنها) وهي أولى زوجاته وقد كانت أرملة، وتزوج من السيدة زينب بنت جحش (رضي الله عنها) وهي مطلقة زيد بن حارثة (رضي الله عنه)، بما يؤكد موضوعية نظرة النبي (ص) إلى المرأة المطلقة، وأنها لا شيء عليها كما أن الطلاق شيء مباح لا غبار عليه.

ولكن بعض المجتمعات العربية تضرب بهذه الدلائل عرض الحائط، ولا تمنح العقل فرصة لتقييم الموقف بموضوعية.

ميثاق شرف جديد

ومما يزيد الأسى أن تلك النظرة إلى الطلاق وربطه في علاقة غير شرعية بالشرف لا تختلف في المجتمعات الراقية عنها في المجتمعات المتخلفة، فسامية ساروار مثلا من عائلة أرستقراطية، ولكن نهايتها أشبه بنهايات جرائم الشرف والثأر في قاحل الصعيد، بما يعني أن المستوى المادي والثقافي والتعليمي لا يؤثر كثيرا في هذه القضية.

ما المطلوب إذن ونحن نواجه أفكارا متداخلة أقرب إلى التطرف والتعنت وأخطر على مجتمعاتنا العربية والإسلامية من جيوش أعدت للحرب؟!

ميثاق شرف جديد، هذا هو كل المطلوب، يتم على إثره تغيير النظرة إلى المطلقات، فالمطلقة ليست هي الإنسانة سيئة السمعة مستباحة العرض، وليست هي السيدة التي لا يمكن لها الزواج من شاب مناسب لها سنا وفكرا ويتمتع بذات المستوى الاجتماعى، هذا مفهوم نمطي مطلوب تعديله فورا، هذا أول العدل، وبدونه لا قيام لمعايير شرف أخلاقية تتمتع بالثبات والديمومة،

فعلى مجتمعاتنا العربية والإسلامية أن تقبل بفكرة الطلاق بدون مزايدة، فقد سمى الله سورة باسم الطلاق، وتحدث عنه في غير سورة أخرى بما يدل على أن القضية عادية جدا، حياة تفشل وأخرى تنجح، لا يعيب أصحاب الحياة التي فشلت فشلها، لأن هذا مقدور في علم الله، ثم إنه طلاق عن زواج شرعي، عن نكاح معلوم لا سفاح، فما الذي يضير المرأة إذن؟نحن نكيل بمكيالين، فالمطلق الذكر له أن يتزوج بشابة بكر وله أن يختار من يشاء، ولكن المطلقة ليس لها سوى العجائز وأصحاب الظروف الخاصة.

مطلوب أيضا محاربة فورية لأسباب الطلاق وتضييق الخناق عليه، ليس علينا أن نحارب ضحاياه من النساء، وإنما الواجب و الشرف يقتضي منحهم الفرصة للحياة من جديد، فشل زيجة لا يعني فشل الحياة، وانتهاء علاقة زواج لا يعني انتهاء الكون، بقدر ما يعني بداية حياة جديد يستفيد فيها الطرفان من حياتهما القديمة، مع تغيير تلك النظرة المزرية للمطلقات لاعتبارات إنسانية، وبفهم واع لحقيقة ميثاق الشرف فذلك مطلب شرعي وعقلي.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضا:

المجتمع والتدمير الذاتي

طلقني شكرا

الزواج في المنهج العقلي

د. محمد ممدوح علي عبد المجيد

حاصل على درجة دكتوراه الفلسفة اليونانية جامعة القاهرة ودكتوراه الفلسفة الإسلامية والتصوف – جامعة المنصورة وعضو الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة وحاصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الفلسفة وعلم النفس لعام 2020م