كثيرا ما يردد صناع القرار في الدول الغربية بأنهم أئمة الحرية والسلام ونشر الحضارة في ربوع العالم، وللأسف نجد لهم أتباعا وأذيالا في دول العالم الثالث يصفقون لهم ويؤمِّنون على شعاراتهم، ولكن القارئ للتاريخ يجد أن هذه مجرد شعارات رنانة غير صادقة، فعلى سبيل المثال نجد قارة كاملة مثل القارة الإفريقية عانت الويلات من نير الاستعمار الغربي الأوروبي،
هذا الاستعمار الذي عمل على نشر الأمية والتخلف والجهل وتفشي الأمراض والأوبئة ومشكلات التصحر والحدود، وغيرها من المشكلات المعوقة للتنمية الإفريقية، وكان جل اهتمامه يتركز على سرقة خيرات هذه القارة، والبقاء على الأمية والجهل بين أبنائها لاستمرارية المد الاستعماري ردحا طويلا من الزمن.
احتلال الجزائر
ولما كانت فرنسا من أولى الدول الاستعمارية للقارة الإفريقية ، هذا حفزنا لأن نسلط الضوء على اختيار نموذج يبرز سياسة فرنسا الثقافية تجاه أول دولة قامت باستعمارها في دول الشمال الإفريقي، ألا وهي الجزائر.
فكما هو معلوم أن فرنسا اتخذت حادثة المروحة كذريعة لاحتلال الجزائر عام 1830، وراحت بعد ذلك تفرض سيطرتها وهيمنتها على أراضي شاسعة داخل القارة الإفريقية ، خصوصا بعد مؤتمر برلين 1884-1885، هذا المؤتمر الذي أعطى من لا يملك لمن لا يستحق، والذي حضره مندوبي 14 دولة استعمارية على رأسهم فرنسا وإنجلترا وألمانيا وبلجيكا وهولندا،
ومن المثير في هذا المؤتمر أنه لم تشترك دولة إفريقية واحدة في هذه الغنيمة، وكانت من أهم نتائج هذا المؤتمر تكالب الدول الغربية الإمبريالية على القارة الإفريقية، وتقطيعها إربا إربا بين القوى الإمبريالية الغربية، ولعل هذا المؤتمر يذكرنا بتصريح بلفور عام 1917 والقضية الفلسطينية.
وبما أن فرنسا لها خبرة استعمارية باحتلالها للجزائر قبل عقد هذا المؤتمر بنصف قرن، فراحت فرنسا تدعم نفوذها على ساحل إفريقيا الغربي، وتمكنت من عقد معاهدات حماية على أوسع نطاق مع شيوخ هذه البلاد، واحتلت كوناكري عام 1887، وأصبح لوجودها عام 1893 تأثير على ساحل إفريقيا الغربي، خصوصا في المنطقة الواقعة بين سيراليون وغينيا البرتغالية، وفي عام 1893 تأسست رسميا مستعمرات ساحل العاج وغينيا الفرنسية.
السياسة الاستعمارية الفرنسية
وكانت السياسة الاستعمارية الفرنسية في مستعمراتها تُحكم بواسطة جهاز من الموظفين الفرنسيين المستبدين الذين كانوا يخضعون للحكومة الفرنسية في باريس، ولم يكن للأفارقة الحق في المشاركة في إدارة شئون بلدانهم باستثناء الشئون المحلية البحتة لقراهم، ومن الناحية الاقتصادية ركزت فرنسا على النهب والسلب لخيرات الدول الإفريقية جمعاء.
ولم يكن الاستعمار الفرنسي يقتصر على الاستعمار السياسي والاقتصادي فقط للدول الإفريقية ، ولكن امتد ليخترق وعي وثقافة الشعوب الإفريقية ، لإدراك فرنسا أن هناك علاقة عكسية بين وعي وثقافة الشعوب وتسخيرها واستعمارها، بمعنى كلما استعادت الشعوب شخصيتها وحافظت عليها، وتمسكت بثقافتها ووعيها، فذلك يحول بينها وبين استمرارية الاستعمار واستغلاله لخيراتها.
لذا فرضت فرنسا على مستعمراتها ما يعرف بسياسة الفرنسة أو الاندماج Assimilation، أي صبغ المستعمرات بالصبغة الفرنسية، وفرض الثقافة والتقاليد والنظم الفرنسية، ونتيجة لهذه السياسة الاستعمارية تشرب الكثير من الشباب الأفارقة للثقافة الفرنسية، وأصبح ارتباطهم ثقافيا وفكريا بدولة الاستعمار (فرنسا).
فرنسا ومعركة الوعي في الجزائر
بعد احتلال فرنسا للجزائر عام 1830، قامت دولة الاحتلال جاهدة على طمس وعي وثقافة الشعب الجزائري، وتطبيق سياسة التغريبWesternization ، التي تعني جعل الشرق تابعا للغرب في الثقافة وطرق التفكير، ومصطلح التغريب في هذا المقام أقوى وأنسب من مصطلح التبعية، لأن الأول يُتناول في المجال الثقافي والفكري، أما الثاني يكون أكثر تداولا في المجال الاقتصادي.
ومن مظاهر بعض سياسات المستعمر الفرنسي الثقافية في الجزائر فرنسة الوسط الجزائري، وذلك عملا بالقرار الصادر سنة 1882، بتسمية الشوارع والساحات الجزائرية بأسماء حكام ومثقفي وجنرالات فرنسا، مثل فيكتور هيجو، وفولتير، وديكارت، ومونتسكيو، والعمل على تشويه الشخصية الجزائرية، وطمس أسماء زعمائها، أيضا سعت فرنسا بكل ما أوتيت من قوة بإنشاء مدارس فرنسية في الجزائر، كانت هذه المدارس لها برامج وأهداف استعمارية، من محاربة الثقافة العربية والهوية الجزائرية، واستبدالها بثقافة فرنسية تتناسب مع المصالح الفرنسية.
أسفرت هذه السياسة الفرنسية عن نشر الأمية بين أبناء الشعب الجزائري، ومحاربة كل أنواع التعليم بمؤسساته المختلفة، وقد نجحت للأسف في هذا المجال، إلى درجة أن أصبح أكثرية الشعب الجزائري لا يعرف القراءة والكتابة، فحسب ما أشارت إليه الإحصائيات عام 1944،
بلغ عدد الأطفال الجزائريين المؤهلين للالتحاق بالمدارس 125 ألف طفل، لم تتح فرنسا الفرصة إلا لـ 11 ألف طفل فقط، وفي عام 1945 عدد المقيدين بالمدارس الجزائرية بداية من التعليم الابتدائي حتى التعليم العالي بما فيهم الحضانة 85201 طالب، وهذا عدد ضئيل للغاية إذا ما تم مقارنته بعدد سكان الجزائر وقتذاك.
وانطلاقا من هذه السياسة تجاه الثقافة العربية في الجزائر، سادت الأمية في أوساط الشعب الجزائري حتى أصبحت بعد قرن وثلث من الاستعمار تشكّل 90% بين الرجال و 4,88% بين النساء حسب ما تذكره العديد من الإحصاءات وقتئذ، أما القلّة التي أتاح لها الاستعمار التعليم فلم تتجاوز 1,5% بين الرجال، و 6,2% بين النساء.
وأخيرا
نخلُص إلى أن فرنسا لا تكتفي بالتدخل السياسي والنهب الاقتصادي، وإنما عملت على محاولة صياغة الوعي الجزائري لتتناسب مع توجهاتها لتسخير الجزائر واستغلالها، ولا يزال هذا الدور عبر الغزو الثقافي والحرب الناعمة.
وهذا ما ذكره المفكر الجزائري مالك بن نبي بقوله:
” الحق أننا لم ندرس الاستعمار دراسة علمية كما درسنا هو، حتى أصبح يتصرف في بعض مواقفنا الوطنية وحتى الدينية، من حيث نشعر أو لا نشعر، فإن الاستعمار لا يتصرف في طاقتنا الاجتماعية، إلا لأنه درس أوضاعنا النفسية دراسة عميقة وأدرك فيها موطن الضعف فسخرنا لما يريد، كصورايخ موجهة يصيب بها من يشاء، فنحن لا نتصور إلى أي حد يحتال لكي يجعل منا أبواقا يتحدث فيها، وأقلاما يكتب بها، إنه يسخرنا وأقلامنا لأغراضه، فسخّرنا له بعلمه وجهلنا).