ترويض العقول وتبرير العنف بين المتبوع والتابع!
تيار الحياة فيه المتبوع والتابع.. الفاعل والمفعول به.. المُحرك والمتحرك.. وعبر هذه الثنائيات تتجلى أبشع صور النزعة العدوانية لدى الإنسان، تلك التي تغلفها عادة مبررات مختلفة، مبعثها في الغالب سلطة دينية أو سياسية تتلاعب بعقول المتبوعين! وما كان لها أن تتلاعب بالعقول لولا استعداد أصحابها واستجابتهم للتغييب المتعمد لعقولهم، تلبية لنداء النفس الأمارة بالسوء.
تتكفل السلطة الدينية في المجتمع –لاسيما إن كانت خادعة وذات مصالح – بالتدخل في عدالة الله تعالى، وتوزيع الناس بين الجنة والنار، فتلقي بينهم العداوة والبغضاء، وتتكفل السلطة السياسية بتجريد معارضيها من أسباب وجودهم، فتدفع بمؤيديها إلى مواجهتهم، وفي الحالتين تتحرر النفس من جانبها اللوام، وتندفع إلى إشباع حاجات ما أنزل الله بها من سلطان.
وثمة تجربتان علميتان مشهورتان في هذا الصدد، الأولى قام بها عالم النفس الأمريكي «ستانلي ملجرام» Stanley Milgram (1933 – 1984) لقياس مدى استجابة البشر لسلطة ما يبدو أنه موثوق بها تدفعهم إلى ممارسة العنف، بغض النظر عن نوازع الطيبة والخيرية والعقلانية في الإنسان.
التجربة الأولى
اختار «ملجرام» مجموعة مختلفة من الرجال والنساء الذين تم إيهامهم بأنها تجربة لقياس تأثير العقاب على العملية التعليمية (تتراوح أعمارهم بين ٢٠ – ٥٠سنة ويتفاوتون في مستوياتهم العلمية والثقافية إلى حد كبير)، كما استعان بمجموعة أخرى من المساعدين الذين يعلمون الهدف الحقيقي من التجربة، بحيث يقوم أحد المتطوعين بطرح أسئلة على أحد المساعدين، فإذا أخطأ أوقع عليه العقاب بشكل متدرج، ومن خلال جهاز للصعق الكهربائي تتراوح شدته بين 30 – 450 فولت.
لم يكن جهاز الصعق يعمل بالفعل، لكن المساعد كان يُصدر صرخات خادعة متدرجة الشدة كلما ازدادت شدة الصعق. ربما تمنعنا طيبتنا ومثاليتنا في الظروف العادية من الاستمرار في هذه التجربة غير الإنسانية، لكن الغريب أن 65% من المتطوعين استمروا، وبلغوا الحد الأقصى القاتل من الفولتية (450 فولت)، بل إن بعضهم أبدى متعته بسماع أصوات صراخ الضحية دون أن يعلم أنها كاذبة، ولم يُحجم عن الاستمرار في التجربة سوى ثلاثة فقط! لقد كانت الأغلبية مُغيبة، تبرر أفعالها بما تم إيهامهم به، فاستراحت ضمائرهم!
التجربة الثانية
أما التجربة الثانية فقد أجراها «فيليب جورج زيمباردو» Philip Zimbardo، أستاذ علم النفس بجامعة ستانفورد (من مواليد 1933)، وعُرفت باسم «تجربة سجن ستانفورد» Stanford prison experiment. في هذه التجربة تم تشييد بناء يحاكي سجن ستانفورد، وتم اختيار 24 متطوعا قسمتهم القرعة إلى حراس وسجناء مقابل 15 دولار يوميا لمدة أسبوعين، وقيل للحراس: لكم السلطة الكاملة في إدارة السجن شريطة عدم الاعتداء الجسدي على المسجونين.
ومع ذلك، وبسبب السلطة الممنوحة لهم، مارس الحراس سلوكا عنيفا تجاه المسجونين؛ حرموهم من الطعام تارة، وأجبروهم على تنظيف المراحيض بأيديهم المجردة تارة أخرى، تحرشوا بهم جنسيا وحبسوا أحدهم في زنزانة فردية.
وبينما كانت التجربة تقتضي أن يظل المسجونون في السجن طوال الوقت بينما يعمل الحراس في نوبات معينة، فقد تطوع بعض الحراس – لشدة المتعة والإثارة – إلى العمل ساعات إضافية مجانا، ومن بين كل ثلاثة حراس لاحظ فريق البحث أن واحدا منهم ذو سلوك سادي، بل إن «زيمباردو» نفسه انخرط في اللعبة بعد اليوم الرابع، ليتم إيقاف التجربة بعد ستة أيام!
في ضوء هاتين التجربتين نستطيع أن نفسر موجات العنف التي يشهدها مجتمعنا هذه الأيام، ونستطيع أن نفسر مدى سهولة بعث العنف والعدوانية من مرقدهما داخل نفوسنا، فنقتل بسهولة، ونشمت في المقتولين بسهولة، ونقاطع بعضنا البعض بسهولة، ونبرر لأنفسنا بسهولة. إنها السلطة، إنها ثنائية التابع و المتبوع ، إنها عقولنا حين ترضخ بسهولة لمن يعبث بها من خارجها وداخلها!
ما بين التابع والمتبوع
يقول «سيجموند فرويد» في كتابه «الحضارة وسخطها»: «الحقيقة هي أن الناس ليسوا مخلوقات ودودة وديعة.. إن درجة من الرغبة في العدوان يجب أن يُحسب حسابها كجزء من موهبتهم الغريزية».
ويؤكد الفيلسوف الألماني «أوزفالد شبنجلر» هذا المعنى في كتابه «أفول الغرب»، إذ يكتب قائلا: «إن الحيوان المفترس هو أعلى أشكال الحياة النشطة. إنه يمثل أسلوبا للعيش يتطلب الدرجة القصوى من ضرورة القتال والإخضاع والإبادة، وتوكيد المرء تفوقه على الآخرين، ويحتل الجنس الإنساني مرتبة عليا لأنه ينتسب إلى نوع الوحوش المفترسة. إن الإنسان وحش مفترس، سأقول ذلك مرارا وتكرارا».
كذلك يقارن الفيلسوف الأمريكي «هربرت ماركيوز» –على نحو تهكمي – بين أشكال العدوان البدائية لدى الإنسان، وتلك التي يُغلفها المجتمع الصناعي المتقدم بقيمه المعوجة وغاياته، فيصرح قائلا: «من المؤكد أن استخدام وسائل العدوان قديم قدم الحضارة ذاتها، لكن هناك فرقا حاسما بين العدوان التكنولوجي وأشد الأشكال بدائية منه؛ فهذه الأخيرة لا تختلف كمًا فحسب (أضعف)، إنما تتطلب النشاط ومشاركة الجسم إلى درجة أعلى من الوسائل الآلية وشبه الآلية من العدوان، ويكون استخدامها استخداما إجراميا.
أما العدوان التكنولوجي فهو على العكس من ذلك ليس عملا إجراميا؛ السائق المسرع لسيارة أو قارب بخاري لا يُسمى قاتلا حتى ولو كان كذلك، ومن المؤكد أن مهندسي إطلاق الصواريخ ليسوا قتلة.. إن الأنماط الجديدة للعدوان تدمر دون أن تجعل أيدي الإنسان قذرة، أو تجعل جسمه ملوثا، أو تجعل عقله آثما!».
ما بين التابع و المتبوع يتم اغتيال المنطق، وارتهان العقل، ويتم نسف استقلالية الذات، فالحذر ثم الحذر. ولنتأمل معا قول المولى عز وجل: «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار» (البقرة: 166 – 167).