مقالاتفن وأدب - مقالات

لا أحد يموت من الجوع

العجوز الكسيح

من الحقائق المسلم بها في مدينتي أنه لا أحد يموت من الجوع، لذلك عندما جاء العجوز الكسيح يطرق الأبواب يقول: “جائع.. سأموت من الجوع!” ما صدق أحد كلامه غير المنطقي، كل الأبواب طرقها دون جدوى.

راح العجوز الكسيح يمشي على يديه ساحبا خلفه جسده المبتور الساقين، ماعاد يتذكر أنه في ما مضى كان له ساقان يسير بهما، ما عاد يتذكر تحت أي قطار تركهما ومضى.

لكن الشيء الملح عليه الآن هو أنه جائع، جائع حتى الموت، راح ينبش صناديق القمامة الخالية إلا من الأوراق وبقايا المعلبات، راح يمضغ أوراق الشجر المتناثرة على الأسفلت بصق مرارتها في أسى، تذكر وهو في هذا الحال كيف كانت القرية قديما، لم يكن فيها أحد يموت جوعا بالفعل، كان الكل برغم ضيق الحال يقدم ما يستطيع، كانت الحياة بسيطة لكن كانت النفوس عظيمة.

تساءل وهو يصارع الموت: “لماذا تغيرت أحوالنا؟ هل لضيق الحال أم لشح النفس؟ كيف وصل بي الحال أن أصارع الموت جوعا وفي الأرض كل تلك الخيرات؟ لماذا لم يشعر بي أحد من أهل القرية؟ هل ظنوا أني أخدعهم؟ هل نفروا من منظري؟”، ظل في حيرته التي لم يشعر بها غيره.

لماذا كذب الرجل؟

حين وجدناه ميتا في الصباح، ذلك العجوز الكسيح الذي طرق أبوابنا، الذي قال سأموت من الجوع، ها هو ميت حقا كما توقع لنفسه، حينها أدركنا أن الرجل خدعنا خدعة من نوع ما، فهو لابد كان يعاني من مرض مميت، لا يهم ما هو لكنه مرض آخر غير الجوع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن لماذا كذب الرجل؟ هل مرضه معدٍ فخاف أن يعافه الناس؟ انتابنا الهلع لذلك وتذكرنا أنفاسه المتهدجة ورائحته العطنة وجسده النحيل وجلده المتغير اللون ونظرته الزائغة.

تذكرنا ضعفه وبؤسه وقذارته. الرجل مريض حقا، راح يطرق الأبواب بخبث وينشر مرضه المعدي المميت.

كل الأبواب طرقها وترك عليها بصماته الملوثة، كل البيوت فتحت له وقال جملته القصيرة الماكرة (جائع.. سأموت من الجوع!).

وبث في هوائها زفيره المسموم. أفزعنا الرجل بموته الذي كان يعرفه مقدما. تركنا الطبيب يحدد سبب الوفاة والذي طمأننا وأكد خلو الرجل الكسيح من أي مرض.

الجسد الملقى في منطقة نائية حامت حوله الكلاب والتي اصطدمت أسنانها بالجلد الأزرق المتغضن كإطار سيارة، هي لم تحاول أن تغرز أسنانها، فقط دارت حوله دورة أو دورتين وأيقنت أنه خالٍ من أي لحم، فابتعدت غير عابئة به وبوجوده. الذباب الذي حلق حوله لم يجد أي مسام يدخل منها خراطيمه فطار مبتعدا.

الجسد الذي تحلل وترك بقعة زيتية تشوه تلك المنطقة التي كانت نائية، والتي امتد إليها العمران، لكن البقعة كانت تتسع لتجعل  شوارعنا زلقة تجبرنا أن نخفف من سرعتنا وأن نتمهل كثيرا.

تمت

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضاً:

نمل الولد الطيب

عبودية الجوع والخوف

خدعوك فقالوا

يوسف أحمد الجعفري

كاتب ومؤلف قصصي