مع العربي الأول (سحر الكلمة)
وكم كان العربي الأول في كلامه مبدعا حين عمد إلى الحرف الأخير من كلمته يحركه حسب موضعها من الجملة، فهو يضمه إذا كانت فاعلا ويفتحه إذا كانت مفعولا ويكسره إذا كانت مجرورة، ثم ما يلبث أن تهديه سلامة فطرته ورقي ذوقه إلى وسيلة أخرى من وسائل الإبداع فيستثني من كلامه أسماء خمسة يرفعها بالواو وينصبها بالألف ويجرها بالياء، ويستثني من ذلك أيضا أسماء لا تصرف، ثم يجعل من بعد ذلك للجر أحرفا وللنصب أدوات ولكان وإن أخوات.
ثم يبالغ العربي الأول في إبداعه فيعبر عن المعنى الواحد بأكثر من كلمة ويعبر بالكلمة الواحدة عن أكثر من معنى، وهو يأتي بالكلمة وضدها وبالكلمة وأضدادها، ثم يصوغ من كلماته تشبيهات مفصلة ومجملة بليغة وتامة، وهو في ذلك كله يعمد إلى كل حرف من حروف كلامه فيخرج بعضها من جوفه وحلقه ويخرج بعضها الآخر من ثناياه وشفتيه ولا يصح بعض الباقي إلا بإخراج لسانه أو بمده.
فلكأنه السحر
ثم يبلغ العربي الأول من الإبداع ذروته فيصوغ من ذلك كله كلاما موزونا مقفى أسماه شعرا، فلكأنه السحر في بيانه، يصوغ الواحد به من أحاسيسه أحرفا ومن مشاعره جملا فتراه حين يحب يرسم بكلماته الحب رسما وحين يشتاق ينحت بعباراته الشوق نحتا، فيكون عن غيره قبل نفسه معبرا، وهاهو ذا أبوالفوارس عنترة يعبر عن كل معتز بكرامته وشرفه فيقول:
– لا تَسقِني ماءَ الحَياةِ بِذِلَّةٍ ….. بَل فَاِسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ
– ماءُ الحَياةِ بِذِلَّةٍ كَجَهَنَّمٍ ….. وَجَهَنَّمٌ بِالعِزِّ أَطيَبُ مَنزِلِ
إنه يأبى أن يذوق الذل ولو كان سببا في نعيمه، ويرضى بالعز وإن كان سببا في شقائه.
وإليك أبيات عمرو بن كلثوم، والتي يعبر فيها عن نفس المعنى ولكن بطريقة أخرى فيقول:
– إذا بَلَغَ الرَّضِيعُ لَنَا فِطاماً ….. تَخِرُّ لَهُ الجَبابِرُ ساجِدِينا
– أَبَا هِنْـدٍ فَلاَ تَعْجَـلْ عَلَيْنَـا ….. وَأَنْظِـرْنَا نُخَبِّـرْكَ اليَقِيْنَــا.
– بِأَنَّا نُـوْرِدُ الـرَّايَاتِ بِيْضـاً ….. وَنُصْـدِرُهُنَّ حُمْراً قد روينا.
ثم ما إن يبلغ العربي الأول في لغته مبلغه ويصل في إبداعه ذروته حتى يشرف الله لغته بنزول القرآن فتخرسهم بلاغته وتعجزهم فصاحته، وإن له -كما قيل- لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق.
وإذا كنت لم تذق بعد إعجاز القرآن فاقرأ بعض آياته أولا ثم أتبعها بقصيدة لشاعر حديث كالبارودي مثلا، ستجدك تتلو القرآن آيات وسورا وقد وعيت أغلبها غير لاجئ إلى تفسير أو توضيح وقد تنزل منذ أكثر من ١٤٠٠ سنة، ولكني على يقين من أنك لن تجاوز بيتا أو بيتين من قصيدة البارودي دون أن يلجئك إلى القاموس تفتحه مرات ومرات لتفهم بعض كلماته المعجمة.
و تبقى العربية بكلماتها وسحر قواعدها شاهدا على عبقرية العربي الأول، وصدق أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:
إن الذي ملأ اللغات محاسنا … جعل الجمال وسره في الضاد.