تهميش الفلسفة وسطوة اللاعقلانية في العالم العربي: واقع الفلسفة في مجتمعاتنا العربية
إن تهميش دور الفلسفة في بعض بلادنا العربية، وعدم الاهتمام بدراستها وتدريسها في مراحل التعليم المختلفة ينذر بكارثة كبرى قد تؤثر سلبا على مستقبل التنمية فيها.
تتمثل تلك الكارثة في سطوة اللاعقلانية وانتشار الفكر المتطرف وصناعة الإرهاب والإرهابيين. حيث أن هناك مقولة قديمة تقول “إن رحيل الفلسفة عن مجتمع ما يعني تراجع حضارته وتدهورها”. وعلى النقيض من ذلك، تدعم فكرة هذا المقال رؤية مفادها أن دراسة العلوم الفلسفية وتعليم أساليب التفكير الفلسفي يعملان كحائط صد في مواجهة الأسطورة والخرافة والتطرفات المنذرة بانهيار المجتمعات.
إن التفكير الفلسفي مرن وحر، لا يتعارض مع الأصول والثوابت، تفكير يؤسس للعقلانية والحرية، يسعى نحو المعرفة، يحث على التساؤل المستمر الذي لا ينقطع، لا يسلم بشيء دون إخضاعه للاختبار، ينتج خطابا عقلانيا استدلاليا دقيقا يعمل على كمال النفس البشرية وسموها.
تفكير يتخذ الشك المنهجي المؤقت وسيلة للوصول إلى اليقين؛ فاختبار الشخص للثوابت والموروثات التراثية بنفسه متبعا الأساليب الفلسفية والمنطقية والعلمية يؤصل لتراثه وثوابته وموروثاته ويدعمها، ويجعل كذلك عملية التفريط بها والتنكر لها ومحاولة محوها عملية مستحيلة.
واقع الفلسفة في مجتمعاتنا العربية:
رغم محاولات التلويح بأهمية الفلسفة التي بدأت في الظهور هذه الأيام في العالم العربي فإن الفلسفة لازالت تعاني الكثير من مظاهر التهميش والاغتراب عن الواقع الثقافي والاجتماعي العربي، ومما يزيد من حدة هذا التهميش في مجتمعاتنا العربية تلك التصورات الانتقاصية تجاه الفلسفة، الاستبدادية في الفكر، تلك التي لا تزال تهيمن على الوعي الجمعي العربي وتزيد من حالة الاغتراب التي يعيشها دارسيها في المنطقة العربية.
يتشارك النظرة إلى الفلسفة في مجتمعاتنا العربية اتجاهان أراهما متناقضين: الاتجاه الأول تمثله النزعة المناهضة للفلسفة، تلك التي تعد نزعة تهكمية تحقيرية تهميشية تجاه الفلسفة ودارسيها؛ تنقسم هذه النزعة المناهضة إلى منظور تقليدي وآخر معاصر، تلك النزعة لها الهيمنة والسيادة في العالم العربي الآن.
أما الاتجاه الثاني فتمثله النزعة الداعمة، الداعية إلى دراسة وتدريس الفلسفة، التي تعد نزعة عقلانية مستنيرة، ترى في الفكر الفلسفي الوسطية وحرية الفكر والتدبر وتقبل الآخر، تلك التي لا تلقى قبول كثيرين من غير العارفين بالفلسفة ومتحجري الفكر وأحادييه.
ينتقد المنظور التقليدي الفلسفة لكونها في نظره مدعاة للإلحاد أو الاختلاف الفكري؛ حيث إن تأثر أفراد المجتمع العربي غير الدارسين للفلسفة ببعض التفسيرات المغلوطة لآراء بعض علماء الدين المسلمين تجاه الفلاسفة عمل على تخويف العوام من دارسي الفلسفة ودراستها وتدريسها، حيث برز كثير من الشعارات المناهضة للفلسفة، مثل القول القديم ذائع الصيت في العالم العربي “من تفلسف تمنطق ومن تمنطق فقد تزندق”، إلى آخر ما هنالك من أقوال وأفعال ساهمت في التخوف من الفلسفة والفلاسفة، حيث انتقد هؤلاء العلماء بعض مناهج الأعمال الفلسفية وأساليب الفلاسفة المطروحة في زمانهم.
تلك التفسيرات المغلوطة لآراء بعض رجال الدين أدت إلى عزوف الجمهور عن الخوض في العلوم الفلسفية، ذلك العزوف الذي استمر حتى يومنا هذا في بعض بلداننا العربية، مما أسهم في حدوث انتكاسة كبيرة للفلسفة، وظهور حالة من الاغتراب بين الفلسفة وثقافة المجتمع.
أما المنظور المعاصر المناهض للفلسفة فينظر إلى الفلسفة على كونها لا فائدة لها في دعم الأسس المعاصرة للتنمية الحديثة؛ كالتجارة والصناعة والاستثمار والسياحة. وهذا –في نظرنا- ما هو إلا نتيجة للموروث الثقافي التقليدي، الذي جنَّب الفلسفة والفكر الفلسفي، مما كان له أكبر الأثر في عدم التفكير في وضع فلسفة واضحة المعالم للعمل والتنمية في المجتمع العربي.
وفيما يتعلق بالاتجاه الثاني من الاتجاهين اللذين يتقاسمان النظر إلى الفلسفة _ذلك الاتجاه الذي تمثله النزعة الداعمة والمدافعة عن الفلسفة_ فيرى أنصار هذا الاتجاه أن هناك بوادرا لانهيار فكري يجتاح العالم العربي في المستقبل القريب إن لم يتسلح المفكر العربي بسلاح التفكير العقلاني الرشيد، وإن لم ندرك في هذه الفترة المأزومة من تاريخنا العربي أهمية العمل على دعم وتشجيع كل مصادر العقلنة المتاحة، التي يمكنها تغيير أو إثراء طريقة التفكير التقليدية بكثير من الأفكار المستنيرة، سنقع فريسة لأنصار اللاعقلانية ، وسيادة أرباب الجماعات الراديكالية، مما يعمل على توجيه القوى الكبرى أنظارها صوب بلادنا، الطامحة إلى استعمار مجتمعاتنا سياسيا وفكريا واجتماعيا وعسكريا، الطامعة في نهب خيرات بلادنا وتبديد ثرواتها.