كيف نصل إلى حوار أرقى؟ – الجزء الثاني
تحدثنا في المقال السابق عن أهمية الحوار في بناء تواصل حقيقي بين الأفراد، وأنَّ معظم مشاكلنا تأتي لانعدام هذا التواصل أو حدوث خلل به، وذكرنا تأثير عاملين وهما “اللغة وصياغتها” و”مستوى الوعي” كعوامل مؤثرة في بناء أو هدم جسور التواصل وفق القاعدة الأولى، ونستكمل في هذا المقال ذكر عوامل وقواعد أخرى وتوضيح تأثيرها.
العامل الثالث
وهو “الخلفية السابقة” والمقصود به اختلاف كل فرد من أطراف الحوار عن الآخر في البيئة التربوية والخصال الفسيولوجية والاستعدادات والقدرات والخبرات، والذي ينتج عنه شخصيات مختلفة وقابليات ذهنية وسلوكية وتعبيرية متعددة تؤثر في إرسال واستقبال عناصر الحوار.
فكل شخص منا له نظرة للأمور، هذه النظرة هي مجموع نفسه وما بداخلها، فعندما يعبر الشخص عن رأيه في موضوع ما، فغالبًا هذا الرأي نابع من مكنون نفسه وطريقة نظرته الداخلية للأمور ودرجة تهذيبه لنفسه، وقديمًا قالوا ” كلُ يرى بعين طبعه”.
بتعبير آخر يمكننا وصف الأمر أن لكل شخص واقع نفسي يختلف عن الآخر، وهذا الواقع النفسي يتكون عبر تفاعل عناصر مختلفة داخل الإنسان، هذا الواقع النفسي له بالغ الأثر في تكوين النظرة للأمور؛ لذلك نجد زوايا نظر كثيرة لموضوع واحد، ونجد جسور تواصل تُهدم بلا سبب واضح، اختلافات عصيبة، وكل فرد متشبث برأيه ويرى أنه الحقيقة ذاتها وأن الآخر هو بالتأكيد مخطئ أو مختل!
وأحيانًا يتعقد الحوار أو يبسط نتيجة “الخلفية المسبقة” لدينا عن الشخص الآخر، أي انطباعاتنا وأحكامنا السابقة عنه سواء طيبة أو غير ذلك، وهي بالطبع عنصر من العناصر المكونة للواقع النفسي للأشخاص داخل الحوار الواحد وتُؤثر بشكل كبير في خط سير الحوار ونتيجته.
ويمكننا هنا ذكر مقولة لابن خلدون تلخص الفكرة: ” النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، كان ذلك الميل غطاء على عين بصيرتها من الانتقاد والتمحيص فتقع في قبول الكذب ونقله”.
القاعدة الثانية: (الإنسان ليس عقلاً فقط)
فالإنسان ليس عقلاً فقط، بل يحوي مشاعر ووجدانيات وأخلاقيات وملكات نفسية، وبالتأكيد تؤثر في الحوار.
1. المشاعر
فالمشاعر تحرك الكثير من الناس خلال حديثهم مع الآخرين، وقد تكون هي المحرك الأول والأساسي، وهي بطبيعتها متقلبة وعمياء، تندفع بما تشعر به دون حساب إن كان العقل ضعيف أو غائب تمامًا عن المشهد، وهنا يتجلى لنا لماذا الحوار يأخذ مسارات عجيبة أحيانًا برغم سلامة الأفكار منطقيًا وبرغم أخلاق المتحاورين الطيبة، إنها قوة المشاعر في التأثير على الإنسان؛ إن تولت هي زمام نفسه.
يقول توفيق الحكيم: ” إن الإنسان ليفسر تصرفات الناس أحيانًا ويضخمها أو يصغرها وفقًا لعلاقتها بمشاعره وأهوائه، أما هي في ذاتها فليست ضخمة ولا ضئيلة، ولكنها مناسبة مع منطق الظروف مجردة من أي اعتبار”.
كما يقول مارك توين: “البعض يصدق الكذبة إذا كانت من شخص يحبه، والبعض يكذب الحقيقة إذا كانت من إنسان يكرهه، وهنا تطغى العواطف على الحقيقة”.
فنجد أحيانًا بعض الناس تُثتثار من كلمة قالها الطرف الآخر، تقلب الحوار رأسًا على عقب، دون وجه منطقي يُذكر، بل هي مشاعر انفجرت جراء تفسير تلك الكلمة واستحضارها في ذهنه من فم المتكلم، ولربما أحيانًا نجد الحوار استرسل لا لاستكمال الفكرة المطروحة وتناولها، ولكن لأن أطرافه يترنحون بكلمات تنعش وتسعد أحدهما الآخر؛ فتُفجِّر مشاعر البهجة والسعادة.
نجد كذلك البعض يقبل الكلام من المحبوب حتى وإن لم يكن صحيحًا، ولا يقبل من المكروه حتى ولو تفوه بالحق الصريح، إنها المشاعر!
2. الهيئات النفسية والملكات الأخلاقية
وطالما تحدثنا عن المشاعر، فلابد أن نتعمق للحديث عن الملكات والهيئات النفسية والأخلاقية، واللاتي يخلقن الدوافع النفسية والبيئة الداخلية للإنسان.
المقصود بالهيئات والملكات النفسية والأخلاقية هي مكونات النفس من حيث نوازع الخير والشر، كخلق الأمانة والشجاعة والصدق والإخلاص أو الكبر والغرور والكذب والغدر والأنانية.
فمثلاً أثناء الحوار؛ قد تخرج كلمات من الشخص أو إيماءات تدل على أخلاقه، أو قد يفسر كلمات وإيماءات الشخص الآخر وفق هيئته النفسية ومدى سلامة قلبه من الرذائل الأخلاقية كالحقد والحسد والكبر وغيرهم، وكثيرًا تكون أرض الحوار خصبة للأخلاقيات السيئة لكي تتضح وتتجلى، وتتداخل الدوافع النفسية السيئة لِتُوهم الشخص أنَّ إقناع الشخص الآخر برأيه يعتبر مسألة حياة أو موت، أو أن كرامته مرهونة بالإقناع، فيتفنن في المغالطات والتشعبات، وقد يُحوَّل الحوار لحلبة صراع بينه وبين الآخر، فقط لأن بيئته الداخلية وملكاته النفسية لا تقبل خسارة دفة الحوار.
عبَّر هنا “غسان كنفاني” عن تلك النقطة ببراعة عندما قال: “الصمت أفضل من النقاش مع شخص تدرك جيدًا أنه سيتخذ من الاختلاف معك حربًا، لا محاولة فهم”.
البعض أثناء حواره مع الآخرين عندما يشعر أن حججه المنطقية ضعيفة، ولا يجد مخرجًا برهانيًا جيدًا لها، فإنه ينقل الحوار من النقاش الفكري حول الأفكار إلى إهانات وسخريات شخصية للآخرين، كأن يسخر من شكله أو منصبه أو لجلجته في الحديث، أو أن يُقلل من قيمته بمظهره أو بمواقف أخرى لا علاقة لها بشئ سوى بحرب داخل نفسه وملكات أخلاقية سيئة داخل قلبه تعبر عن نفسها ومكنونها.
وهنا نترحم على الحقيقة، فهي عزيزة لا تقبل أن تتواجد في مثل هذه الحلبات الصراعية المسماه ظاهريًا بالمناقشة أو الحوار.
كذلك الكثير من النقاشات تتطلب صبر، فترتيب عناصر النقاش وتحليلها وربطها ببعضها والتروي والانتظار لسماع فكر الآخر وتناولها، ودراسة الحجج والبراهين على كل فكرة بعد فهم مقصدها ودلالتها، كل ذلك مع أشخاص لا تحوي نفوسهم على ملكة الصبر، يكاد يكون مستحيل أن يؤتي ثمرًا.
فالأخلاقيات والطباع والهيئات النفسية لها أكبر الأثر على تحقيق حوار من عدمه.
القاعدة الثالثة: (هناك توفيقات إلهية)
الإنسان المتبني والمعتقد في وجود إله مهيمن على كل شئ، فحتمًا يضع الإله وتصريفاته ضمن أي معادلة، بل ويضع حكمة الإله وقدرته وأفعاله في المقام الأول قبل كل أسباب مادية يحاول البحث فيها.
وإن تأملنا هنا، فلابد أن نعترف أن هناك تصريفات إلهية في النفوس لا يعلم سرها إلا الله، فنجد نفوس تتآلف منذ اللقاء الأول وأخرى تتنافر برغم سنوات من التعارف والاحتكاك، وتآلف وتنافر الأنفس له بالغ الأثر في طريقة الحوار واسترساله.
كذلك لا يمكننا إنكار أن الله هو المتحكم الأول، وقدر جرت حكمته أن يجعل الجزاء من جنس العمل، فمثلاً إن أصر الإنسان على اقتراف الظلم والطغيان باستكبار فسيكون جزاؤه في الدنيا إغلاق عقله وقلبه، هذا الصنف مهما قدمت له في حوارك من أدلة منطقية ومعاملة حسنة؛ فلن تجد إلا طريق مسدود.
بذلك نكون قد استعرضنا أهم القواعد التي تُجمل وتفسر أسباب نشوء حوار أو فشله، ودور ذلك في خلق جسر للتواصل أو لا، وفي المقال التالي والأخير نستعرض بإيجاز أهم الحلول العملية لتنفيذ تلك القواعد وخطوات تفصيلية لمن يُريد أن يحاول بشكل جاد إقامة حوار حقيقي كلما أُتيح له ذلك.