قانون الهوية
وضع أرسطو قانون الهوية، القائل بأن الشيء هو نفسه (أ هو أ)، بوصفه أول قوانين الفكر الأساسية، مستوعبا بذلك علاقة المساواة التي تبرر رد الرياضيات بأكملها إلى المنطق. وبلغة رياضية فإن (أ) = (أ)، طالما ظلت قيمة (أ) ثابتة.
وقد ربط أرسطو هذا القانون بقانونين آخرين لا ينفصلان عنه، هما قانون التناقض القائل بأن الشيء لا يمكن أن يكون هو وليس هو في وقت واحد ومن جانب واحد: (أ) لا يمكن أن تكون (أ) وليس (أ) في الوقت ذاته، وقانون الثالث المرفوع أو الوسط الممتنع القائل بأن الشيء إما أن يكون هو أو ليس هو ولا ثالث بينهما: (أ) أو لا (أ).
وكان السؤال الأساسي للفلاسفة إزاء قانون الهوية هو التالي: هل الهوية علاقة بين ألفاظ أم بين أشياء؟
ولم تخرج إجاباتهم عن كونها علاقة بين ألفاظ، لأن الشيء لا يمكن أن يحتفظ بهويته الواحدة من لحظة إلى أخرى، ولا توجد الماهيات الثابتة والأزلية إلا في عالم المثل، فكوكب الزهرة الذي رأيته مساء أمس ساطعا في السماء ليس هو ذات الكوكب الذي أراه صباحا؛ لقد تطايرت منه على الأقل ذرة تراب فانتقلت من مكان إلى آخر، ولم يعد ذات الكوكب، والشجرة التي رأيتها صباحا تظلل باب منزلي ليست هي ذات الشجرة التي أراها ظهرا؛ لقد تساقطت منها أوراق ونبتت أخرى فلم تعد ذات الشجرة.
العلاقة بين الهوية والأشياء من حولنا
ولو نظرت إلى صورك التي تحتفظ بها عبر مراحل عمرك المختلفة لرأيت أشخاصا مختلفين عنك الآن تماما؛ أفكارهم مختلفة، وأشكالهم مختلفة، وأحوالهم الصحية مختلفة، وحتى آمالهم وتطلعاتهم مختلفة! أنا منذ ثانية ليس أنا الآن، لقد ماتت في جسمي خلال هذه الثانية 125 مليون خلية، منها ما تجدد، ومنها ما افتقدته إلى الأبد.
هل يمكن إذن أن أكون أنا لست أنا بانطباعات الزمان على جسدي وفكري؟ أليس لي جوهر ثابت تتبدل عليه الأعراض من حين إلى آخر، ومن ثم لا أفقد هويتي الحقيقية؟
لقد وُلدت منذ سنوات خلت، وتعلمت وعلمت أنني هو أنا، ويعلم المحيطون بي أنني هو أنا، بل يستطيع العلم المعاصر أن يُثبت أن لي تركيبا جينيا وراثيا يميزني عن غيري، وأن لي بصمات أصابع وبصمة صوت لا تتطابق مع بصمات غيري، وسيحاسبني ربي يوم العرض عليه بوصفي شخصا واحدا هو أنا، والشجرة التي تظلل باب منزلي هي ذات الشجرة التي أراها منذ سنوات، حقا لقد تغيرت أعراضها، لكن جوهرها بالضرورة ثابت.
وكوكب الزهرة المضيء مساء وصباحا هو ذات الكوكب الذي أراه كل يوم، قد تعتريه تغييرات عرضية، لكن جوهره قطعا ثابت. ألسنا جميعا نشترك في معرفة أن هذه الأشياء هي هي مهما تغيرت أعراضها؟
أنا والمرآة
دعني أزيد الأمر تعقيدا فأتساءل: هل يمكن أن أكون أنا لست أنا في اللحظة ذاتها؟ هل يمكن أن أكون أنا لست أنا لحظة كتابتي لهذه السطور؟
حملتني أفكاري إلى مرآتي. نظرت فيها فوجدتها تعكس نسخة متطابقة مني، شخصا أدرك أنه أنا. سألته: أليس أنت أنا؟ أجاب: كونك قد استخدمت ضمير المخاطب (أنت) فهذا إقرار منك أنك لست أنا!
قلت: كيف؟ أنا أحرك ذراعي الأيسر إلى أعلى فتأتي بالحركة ذاتها وفي اللحظة ذاتها، وأمسك قدح الشاي بيدي اليمنى فتمسك بذات القدح بذات الشكل وفي ذات اللحظة.
أنظر أليك وأتمتم فتنظر إلي وتتمتم بحركات متطابقة. أجابني مرة أخرى: لقد أخطأت الملاحظة والتقدير؛ لقد حركت ذراعك الأيسر لكني حركت ذراعي الأيمن، وأمسكت بقدح الشاي بيدك اليمنى لكني أمسكته بيدي اليسرى، ونظرت تجاه الجنوب (تجاه المرآة)، لكني نظرت تجاه الشمال، أنا لست أنت، فسرها كما تشاء، عد إلى الواقع وتأمل، ستجد أنك أشخاصا يجسدهم شخص واحد، أو قل شخصا يحوي عدة أشخاص!
زادت كلماته من حيرتي، ألقيت عليه قدح الشاي فتحطمت مرآتي إلى قطعٍ عديدة، منها الكبير ومنها الصغير، جميعها تحوي نسخا مني بمقاييس واتجاهات مختلفة. يا ويلي، أكل هؤلاء أنا؟ أتراهم أولئك الأشخاص الذين أحتويهم في شخصي كما أخبرتني مرآتي؟
عدت إلى مكتبي وأمسكت قلمي. سألته: ألست القلم الذي كنت أكتب به قبل قليل؟ أجاب في تحد: لا، لست ذلك القلم، لقد استنفدت جزءا من رصاصي وخشبي، وربما تستنفد ما بقي مني فتذوب هويتي في هوية أوراقك المتراكمة، تماما كما ذابت هوية الثمرة التي أكلتها في هوية جسدك.
أنا والقلم والآخرون
حكوت للقلم حديث مرآتي، فقال: حدثتك مرآتك يا صديقي بالحق، وأنا شاهد عليك. أمسك بي، وعد إلى الخلف على مقعدك، استرخ وتأمل، وتحدث مع الآخرين بداخلك. لم ألبث أن فعلت، وما هي إلا لحظات قليلة حتى تدافع بداخلي أولئك الأشخاص – الذين هم أنا – يتسابقون إلى قلمي.
قال أولهم: أكتب، فما لديك إلا القلم. قلت ماذا أكتب؟ قال أكتب عن زمانك بالحق، عن أناس يحيون على تراث أمواتهم، غفلوا عن أنهم هم الأموات وأمواتهم أحياء، عن الجهل يمشي مُختالا في أروقة المدينة، يُسامر الوهم على النواصي، ويُصافح الكذب فيعلو وينتصر، عن مجتمع يموج بالحمقى وبائعي الضمائر وأرباب الوعي المُنكسر، أكتب عن تعليم وإعلام يمتهن العقول فتستجيب، وعن شباب فقدوا قُدوتهم فتدثروا بدثار غريب، عن أحزان أم ثكلى وأب مكلوم وطفل يعلو صراخه، وما من مجيب!
وما أن هممت بالاعتدال والكتابة حتى أفزعني نداء الثاني في داخلي: لا تستمع إليه فتشقى، ولا تكتب ما أملاه عليك فتُصادر أوراقك ويُقصف قلمك، ماذا فعل الآخرون من قبلك؟
بل اطمس الحقيقة في عقلك وقلبك، شوّه الواقع بقصور من رمال الوهم تذروها رياح الحق ولو بعد حين. وارسم لهم سرابا يُزين الجهل حين يُغني ويتراقص طربا في غيابات القلب الحزين، أكتب يا صديقي فأنا لك ناصح أمين، ولا تلومنني إن سلكت طريق الأول فوجدت نفسك منبوذا من حشد السُكارى، بل ومقطوع الوتين!
هنا تدخل الثالث صائحا: بل اتبعني أنا وكن من الغافلين، فما شقاؤك إلا من جرَّاء الكتابة، ألق هذا القلم ومزّق الأوراق وعش حياة النعيم، كُن كما يُريدك الآخرون، استلب كيانك الواعي قسرا، والتحم بالمشهد العبثي دهرا، وانزع دثار العقل قهرا، كُن تافها، ضائعا، جاهلا، ودعك من هذا الجنون.
صوت الحق
تقافز الرابع والخامس والسادس … نصائح تتداخل … وصور تتلاحق … أصوات يطعن بعضها بعضا … انتبهت على صوت المؤذن: حي على الفلاح. أدركت حينئذ أن صوت الحق يعلو ولا يُعلى عليه، وأن الأمانة التي حملها الإنسان ظلما وجهلا تقضي بأن أحدد في لحظة فاصلة من حياتي من أكون، وأن يحدد الأخرون من يكونون!