أن تكون مرتاح البال
من منا لا يتمنى راحة البال؟!
هذه الحالة من الاستقرار النفسي والطمأنينة الداخلية التي قد لا نراها أو نسمع عنها إلا في الأفلام أو الروايات التاريخية التى تعكس العالم الداخلي للعظماء والحكماء وكيفية اتخاذهم للقرارات الصعبة بحكمة ورزانة. وتَحكُّمهم شبه التام في مشاعرهم فلا يفقدون الاتزان من شدة فرح أو حزن. هذه الحالة المتزنة المستقرة في أصعب المواقف المُسماه براحة البال .. هل من سبيل للحصول عليها؟
التفكير وراحة البال:
قد يتساءل البعض عن العلاقة بين راحة البال واتخاذ القرارت في المواقف الصعبة متعجبين ” أليست راحة البال تعني ألا يُفكر الإنسان في شىء؟! أليس التفكير نفسه هو الذي يوجب عدم الاستقرار والقلق وغير ذلك من حالات تتنافى و راحة البال ؟! ”
في الحقيقة لا يمكن للإنسان أن يتوقف عن التفكير تماما؛ فمعنى أن نكون مرتاحين البال ؛ هو أن نتمكن من التحكم في ما يدور بأذهاننا؛ لنتمكن من تحقيق الاستقرار والطمأنينة وليس أن نتوقف تماما عن التفكير فهذا محال. فالاستقرار النفسي ينبع من الاستقرار العقلي وليس من انعدام التفكير .. وهنا يأتي السؤال “كيف نتمكن من التحكم في ما يدور بأذهاننا؟”
اختر ما سيدور في ذهنك بعناية
أجرى بعض علماء النفس تجربة على الأطفال لاختبار قدرتهم على مقاومة ما يغريهم، فقاموا بوضع حلوى لذيذة أمامهم وطلبوا منهم ألا يأكلوا الحلوى وينتظروا لمدة ساعة وسيحصلون في المقابل على جائزة. وكانت هذه الجائزة مُغرية أيضًا، وبدأوا في ملاحظة الأطفال من خلال الكاميرات ليروا من سيتمكن من المقاومة
. لاحظ العلماء أن الأطفال الذين ينظرون إلي الحلوى باستمرار وحتى إن حدثوا أنفسهم بأن الجائزة أفضل وأكثر إثارة؛ لم يتمكنوا من السيطرة على أنفسهم وأكلوا الحلوى في النهاية.
أما الأطفال الذين صرفوا نظرهم واستمروا في التفكير في أشياء أخرى كالجائزة التي تنتظرهم أو في غير ذلك من الأمور استطاعوا في النهاية مقاومة رغبتهم في أكل الحلوى؛ أى أنهم تمكنوا من النجاح في السيطرة على رغباتهم فقط عندما تمكنوا من التحكم في أذهانهم.
نمط الحياة والاستقرار النفسي
مما سبق يمكننا أن نخلص إلى نقطتين في غاية الأهمية:
الأولى أننا بحاجة لاختيار نمط حياتنا بعناية شديدة، فما يحدث حولنا تتغذى به عقولنا ومن ثم يتحدد مدى استقرارنا النفسي. ولنتخذ الأغاني وعلاقتها بالعلاقات الاجتماعية وأثر ذلك على استقرارنا النفسي كمثال.
كثير من الشباب يدمن سماع الأغاني لما بها من تناغم تميل إليه النفس البشرية، لكننا إذا نظرنا لمضمون الأغاني التي تتحدث عن العلاقة بين الأصدقاء أو الأحباء سنجدها تقدم “التجارب الشخصية والأفكار التي تفتقر للمنهجية والدقة المنطقية والقواعد الدينية” على أنها قواعد يجب على أطراف العلاقة الالتزام بها كي لا يقعوا في نفس الأخطاء التي يَئِن بسببها المُغني.
وبالطبع مع تكرار هذه المضامين في تناغم يصعب على النفس التوقف عن الاستمتاع به لتقوم بتحليله، تترسخ في الذهن وتوجه سلوك الانسان تدريجيًا؛ فتكون النتيجة؛ تَكون أجيال تفتقر للحكمة في العلاقات الاجتماعية وللمعاني الحقيقية للزواج والصداقة، ومن ثم تزداد حالات عدم الاستقرار النفسي والتي تظهر في شكل قلق وتوتر واكتئاب وغيرهم من المشكلات النفسية لدى الأزواج -إن استمر زواجهم- وأيضا بين الأصدقاء.
ونحن هنا نتحدث عن عادة واحدة من ضمن مئات أو آلاف العادات التي تُشكِّل نمط حياتنا والذي يُشكِّل بدوره ما يدور في عقولنا وبالتبعية يُحدد مدى استقرارنا النفسي .
نقاوم ما نحب ونتحمل ما نكره
أما النقطة الثانية فهي أنَّ مقاومة ما نحب -إذا علمنا ضرره- وتحمل ما نكره -إذا علمنا نفعه- هو السبيل الحقيقي للحصول على الاستقرار النفسي المطلوب، ولكن قد يتساءل البعض “أليس ترك ما نحب وتحمل ما نكره أمر يشق على النفس لما تشعر به من معاناة؟!”
فنقول: المعاناة حتمية لأننا بشر مُختارون، فمعنى الاختيار أن تتنازع أنفسنا بين الرغبات المختلفة ومهما كان اختيارنا؛ فترك باقي الخيارات مؤلم؛ لأن النفس تطمح دائما للمزيد ولا تحب الفقد. ولكننا مع ذلك إن اقتنعنا بحتمية المعاناة وتعاملنا معها بحكمة ستزددْ حالة الطمأنينة والاستقرار النفسي لدينا، ولكن كيف ؟
لا تتعلق بما يمكن فقده!
الإنسان كما اتفقنا سيعاني؛ لأنه لا يمكنه الحصول على جميع الخيارات المتاحة، ولكنه مع ذلك يمكنه أن يختار من بين نوعين من أنماط الحياة؛ الأول يعاني ويتألم فيه ولا يحصل أبدًا على راحة البال ولا الاستقرار النفسي.
والثاني يعاني ويتألم أيضًا فيه، ولكنه مع ذلك يعيش مرتاح البال ، مستقر نفسيًا، وينعم بمزيد من الطمأنينة. ولتتضح الصورة أكثر؛ يمكننا تقسيم البشر إلي نوعين طبقًا لما يشغل بالهم من خيارات .
النوع الأول لا يشغل باله إلا الخيارات المادية (أشياء – أشخاص – مكانة اجتماعية.. إلى آخره.) وهذا النوع مهما كان اختياره؛ فإنه سيتألم لخسارة الآخر. وحتى ما فاز به سيحيا في حالة من التوتر والقلق على فقدانه أو تبدّله. وهو دائم التنافس مع الآخرين؛ لأنه يعلم بأن المادي محدود.
أما النوع الثاني؛ فذهنه منشغل بالخيارت والنتائج المعنوية (مبادىء – معتقدات – أخلاق ..إلى آخره.) وكنتيجة لذلك؛ فهو لا يعاني من قلق فقدان موجود أو فوت مطلوب؛ لأن كل ما هو معنوي باقٍ غير محدود ولا يمكن لأحد سلبه أو التحكم فيه كما يحدث في عالم المادة.
وهذا النوع إذا حدث واختار شخص أو شىء على حساب قيمة أو خُلق؛ يندم لعلمه بقيمة ما فرَّط فيه في مقابل ما لا قيمة له إلا بتسخيره لتحقيق مبادئه ومعتقداته وقيمه الأخلاقية.
خلاصة القول:
الاستقرار النفسي ينبع من الاستقرار العقلي. فاختر بعناية ما سيدور في ذهنك من خيارات عن طريق اختيار نمط الحياة المناسب واستقاء المعلومات من المنابع العقلية والدينية والعلمية الصحيحة. وتَقبَّل حتمية المعاناة في هذه الحياة حتى لا تخدعك المغريات؛ فتجعلك تركن إلى المؤقت المتغير على حساب الباقي الثابت فتنعم براحة البال والاستقرار النفسي المنشود.