مقالاتقضايا وجودية - مقالات

كوفيد 19، أفكار تحارب الفيروس!

هل الفيروس الجديد عقاب إلهي؟ أم أنه اختبار للصالحين؟

هل الإنسان هو السبب؟ أم أنه مسير ليس بيده شيء؟

هل العالم عبثي تجتاحه الكوارث العشوائية؟ وهل نهايته هي العدم؟

هل نعيش في عالم من الشر؟ أم أن هناك خيرًا في العالم؟

كل هذه الأفكار تثور الآن في نفوس البعض أو في كلماتهم ومشاركاتهم على مواقع التواصل، والتحلي بأفكار سليمة ضروري في التعامل مع الفيروس، فمثلًا لو كان العالم شرًا محضًا وعبثيًا وإلى فناء كما يقول البعض – فلماذا إذن نحارب الفيروس؟ ولماذا نحاول الحد من انتشاره؟ هكذا تظهر خطورة هذه الأفكار وتأثيرها على مصير البشرية بأكملها!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الإله جميل لا يصدر عنه إلا كل جميل!

يثبت العقل وجود سبب أول للكون متصف بالكمال المطلق والجمال التام، وأن أثره -وهو الكون- جميل بجماله، وعلى أتم وأكمل نظام ممكن. وهذا الاعتقاد مثبت بأدلة عقلية كثيرة منها دليل النظام ودليل العناية ودليل الهداية ودليل الحدوث ودليل الاختراع ودليل الحركة ودليل الإمكان ودليل الصديقين و …

وبالتالي فالرؤية الإلهية السليمة هي في حقيقتها رؤية واقعية لاعتمادها على أدلة عقلية قوية وكثيرة، ومتفائلة لإيمانها بخيرية الإله والعالم وما به من أحداث.

هذا الاعتقاد يغير من نظرتنا لما نراه شرًا، فهو خير بالتأكيد إن نظرنا للصورة الكاملة. فمثلًا الزلازل والبراكين التي نظنها شرًا هي في حقيقتها ضرورية جدًا لتشكل وبقاء الأرض بشكلها الحالي، وهو الشكل الملائم لوجود الأحياء جميعهم ولوجود الإنسان، وبالتالي الزلازل والبراكين في حقيقتها خير!

وافتراس بعض الأحياء للبعض أو وجود بعض الأمراض هي أمور ضرورية لاتزان الحياة واستمراراها، فعندما تَدَخّل الإنسان مثلًا في بعض المناطق الطبيعية وقتل الحيوانات آكلة اللحوم زادت أعداد آكلات العشب، فتم التهام الأعشاب بأكملها، فجاعت آكلات العشب وماتت هي نفسها، فانهار النظام الطبيعي والحياة بأكملها في هذا المكان! والأمثلة التاريخية على ذلك كثيرة.

كيف نستفيد من الفيروس الجديد ؟

وإذا تأملنا في كارثة الفيروس الجديد لوجدنا أوجها كثيرة للخير فيها، منها تذكرنا للأمور الأهم مثل قيمة الصحة والحياة بينما تراجعت أمورًا تافهة شغلتنا كثيرًا كبعض النزاعات الرياضية والكروية، ومنها العودة للعلم والمنطق والدين السليم وإدراك أهميتهم في مواجهة الأزمات بينما تراجعت كثير من التفاهات التي كنا ننفق عليها مبالغ ضخمة كبعض الفنون قليلة القيمة،

ومنها أننا انتبهنا إلى أن حياتنا مؤقتة وإلى أهمية استغلالها في غايات عظمى، ومنها أننا تذكرنا أن الموت قريب فيجب أن نترك التكبر والغرور والحمق والصراعات التافهة التي تسببها الأطماع في الدنيا، ومنها استحضارنا لأهمية التكاتف الأسري والمجتمعي بل والدولي لمواجهة الأخطار.

ومنها إدراكنا لزيف بعض الدول التي تتغنى بحقوق الإنسان بينما الآن تسمح للفيروس بالانتشار على نطاق واسع مما يهدد ملايين الحيوات مثلما تفعل بريطانيا، بينما تسعى دول أخرى لاحتكار اللقاح لاستغلاله سياسيًا واقتصاديا مثلما حاولت الولايات المتحدة الأمريكية، ومنها إدراك الدول لأهمية الاعتماد على الاقتصاد الوطني والاكتفاء الذاتي وترك الاعتماد على الشركات الرأسمالية العابرة للقارات التي لا تهتم إلا بمصلحتها حيث وجدت الدول نفسها فجأة مهددة بالانعزال عن العالم. ولو واصلنا التأمل لواصلنا استخلاص الإيجابيات!

وحتى الأمور التي يظنها البعض شرًا إن تأملنا فيها سنجد أن الخير فيها أكثر من هذا الشر المظنون، فمثلًا عدد الأصحاء بشكل عام أكبر من عدد المرضى، والمرضى أغلبهم يمرض في جزء من حياته فقط وباقي حياته معافى، ويمرض جزء فقط من جسده وباقي جسده سليم. وبالنظر للفيروس الحالي فنسبة الإصابات به التي لا تحتاج لأي علاج تصل لأكثر من80%، ونسبة الوفيات منه حوالي ٢% فقط، وهكذا.

إن سيطرة فكرة بسيطة علينا مثل عدم وجود أمل أو خير في العالم أو عبثية الكون وعدم وجود إله معتنٍ به – قد تدفعنا للاستسلام في معركة الفيروس وترك الملايين للموت!

الموت ليس النهاية!

يثبت العقل أيضا عدم فناء النفوس بموت الأجساد، ويثبت عدل الإله مما يؤدي لضرورة عودة الحقوق لأصحابها وضرورة الثواب والعقاب. كما تتحدث الأديان السليمة أيضًا عن اليوم الآخر وتحقق العدل فيه، ومواجهة الإنسان فيه لمصير أعماله.

وقد ذكرنا منذ قليل أن الإله جميل خيّر لا يصدر عنه إلا كل جميل وخير، وتؤكد الأديان على أن رحمته سبحانه وسعت كل شيء، كل هذا يجعل الموت ليس مخيفًا البتة وليس نهاية المطاف، بل كل ما يجب أن نخاف منه هو أن نظلم أحدًا أو نقوم بالأعمال غير الطيبة فنورث أنفسنا شقاءً وتعاسة.

هذه الاعتقادات تؤدي لسعي الإنسان للقيام بالأعمال العادلة والخيّرة قدر استطاعته كحماية نفسه والآخرين من الفيروس ومساعدتهم حتى ينالوا فرصًا أكبر لعمل الخير وتعويض ما قصروا فيه، لكنه في نفس الوقت غير خائف من الموت بل مطمئن إلى رحمة الإله.

إن هذه التركيبة الفكرية هي التركيبة الوحيدة التي تدفع الإنسان لبذل أقصى جهده لمواجهة الفيروس ومساعدة الآخرين، وفي نفس الوقت دون خوف أو هلع من الموت!

الإنسان ضعيف:

فيروس ضئيل تقضي عليه أبسط المطهرات قلب العالم رأسا على عقب في أيام معدودة! ما أضعف الإنسان وما أعجزه!

هذه الحقيقة يجب ان ينتبه لها الإنسان فيسعى جاهدًا لعلاج جهله بطلب العلم، وعجزه بالتكاتف، وضعف إرادته بالسلوكيات الطيبة، وفوق كل ذلك يجب أن يطلب هذه الأمور كلها من مصدرها الكامل، فيطلب من الإله العلم والقوة والإرادة، فبدون الدعم الإلهي لن ينجح الإنسان العاجز في فعل أي شيء!

وبدون إيمان الإنسان بوجود هذا الدعم يصيبه الهلع واليأس والجزع وقد يتوقف عن مواجهة الفيروس.

المعنويات أهم من الماديات!

يثبت العقل تقدم الروح والعقل على الجسد والمادة، وأنه يجب ألا نترك مصلحة الروح والعقل لأجل منافع مادية ضئيلة.

والأزمة الحالية توضح أهمية ذلك، فأصبح واضحًا للجميع أن أموال الدنيا كلها لا تساوي حفظ الأرواح، وأن كل الماديات في الدنيا لا تغني عنا شيئًا إن لم يكن معنا العلم السليم -والعلم أمر معنوي وليس ماديًا-، كما أن حياتنا في العالم المادي سريعة الزوال ويجب الاستعداد لحياة الروح.

أما من يسيطر عليه الفكر المادي فقد يجلب مصائب وخيمة على البشرية جمعاء، كبعض الدول التي لا زالت تتهاون في التعامل مع الفيروس لحماية بعض المصالح الاقتصادية!

الإنسان مختار، وقد يفسد في العالم باختياراته الخاطئة:

وجود الفيروس الجديد وإصابة البعض به ليس باختيارنا بالتأكيد، لكن كيفية تعامل باقي البشرية معه وعدم السماح له بدخول دول جديدة والقيام بالإجراءات الوقائية لمنعه – كلها أمور في أيدينا، وهي التي ستحدد مصير البشرية في التعامل مع الفيروس! وبشكل عام لن يحاسب الإنسان إلا على أفعاله الخاصة، فمصيرك النهائي ستحدده أفعالك!

وبسبب اختيارات البعض الخاطئة يفسدون مصيرهم، وبسبب اختيارات الإنسان الخاطئة المبنية على الطمع والجشع يفسد أحيانًا في الكون، فسواء بدأ الفيروس بسبب ممارسات غذائية شاذة أو بحرب بيولوجية فالسبب هو بعض البشر، ودخول الفيروس كثير من الدول كان سببه تهاونها في البداية في مواجهته، وهكذا.

وإذا أصلح الإنسان عمله سيزول الكثير من الفساد، فمثلًا قلت معدلات تلوث البيئة عندما توقف الإنسان مؤقتا عن بعض الأنشطة الصناعية بسبب الفيروس.

ووجود الإنسان هذا الكائن العاقل المختار هو في حقيقته خير، لأن العقل يمكّنه من معرفة الحق وعمل الخير، وهذا خير! كما يمكّنه من التشبه بصفات الإله الكامل قدر الطاقة البشرية، وهذا خير!

والعقل بفطرته يميل للكمال والخير، فالأغلب في سلوكيات الإنسان هو الخير، فمثلًا كم مجرمًا تعرف في حياتك بشكل شخصي؟ بعيدًا عن تهويل الإعلام والفن؟ وهؤلاء المجرمون هل كل سلوكياتهم عبارة عن جرائم أم بعضها فقط؟ فغير المجرمين أكثر بكثير من المجرمين والسلوكيات الإجرامية أقل كثيرًا من غير الإجرامية وإلا لانتهت البشرية أصلًا!

لكن الإنسان يسيء أحيانًا استعمال عقله وحرية اختياره مما يؤدي لبعض الفساد في العالم، وهذه ضريبة كونه عاقلًا مختارًا، وبدونها لن يصبح عاقلًا أو مختارًا حقًا! وبالرغم من ذلك فالأغلب في سلوكه هو الخير كما سبق، ومن يتعرض لشر من غيره فهناك يوم آخر عادل كما سبق!

إن فكرة بسيطة مثل كون الإنسان مسيرًا أو شريرًا تكفي لكي نترك الفيروس الجديد ينتشر ويقتل الملايين، فالأمر ليس بأيدينا وهؤلاء أشرار يستحقون الموت!

لقد ظهر جليًا أهمية تغيير أفكارنا في تعاملنا مع الفيروس، يجب أن نخوض الحرب الفكرية مع الحرب الطبية!

اقرأ أيضا:

الأخلاق تحارب الفيروس

المنطق يحارب الفيروس

فيروس كورونا الجديد، الخطر بين الحقيقة والوهم

أحمد عزت

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا