اعتراض الملائكة على استخلاف الإنسان
الإنسان والشر
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) باغتني صديقي المتشكك قائلا هذه الآية معلقا بعدها بصوت خافت “يبدو أن الملائكة كانت تعرف طبيعة البشر فعلا”!
قلت له: لا أفهم بالضبط مغزى حديثك؟
قال لي: الشر كثير، والبشر يفسدون فيها فعلا ويسفكون الدماء، يعذبون المظلومين، والقذائفُ والصَّواريخُ على رؤوس الأبرياء فيُقتلُ مَنْ يُقتل ويُجرَحُ مَنْ يُجرح، طفلا كان أو امرأة أو شيخا، آمنا أو مسالماً، ويجوع الناس، ويخاف الآمنون…
ألا يعد هذا دليلا على استفحال الشر، وأن الإنسان الأصل فيه الشر، وأن ما جناه العالم من خلق هذا الكائن هو الهلاك والتعاسة والظلم والإفساد والطمع وسفك الدماء وغيرها من الشرور… و الملائكة قد فقهت هذا من زمن!
– يا صديقي إن الله خلق الملائكة بعقل بدون شهوة، فلما أنبأ الله ملائكته بأنه جاعل في الأرض خليفة لنشر العدل في الأرض، تساءل الملائكة : كيف يتغلب عقل الإنسان على جسد، الشهوة ذاتية فيه؟!
فهل أدركوا ذلك لمعرفتهم بهيئة تكوين البشر (الجسدية والعقلية والناطقية) أم أن تنبؤ الملائكة يعود إلى تجربتهم السابقة مع مخلوقات سبقت آدم فأفسدوا، وتنازعوا فيما بينهم وسفكوا الدماء، وأيًّا كان السبب فقد شاء الله أن يجعل هذا الكائن مختارًا حرًّا، ولا إنسانية بدون حرية، ولكن السؤال هنا هل فعلا أن الأصل في الإنسان هو الشر والإفساد والظلم والبغي وسفك الدماء وانتهاك الحرمات وقتل الأبرياء…؟!
تقسيم أرسطو للموجودات
ينسب إلى أرسطو قوله: إن الموجودات من ناحية الخير والشر يمكن تقسيمها نظريا إلى خمسة أقسام:
1. ما هي خير محض لا شر فيها أصلا.
2. ما كان فيها خير كثير وشر قليل.
3. ما يتساوى فيها الخير والشر.
4. ما كان فيها شر كثير وخير قليل.
5. ما هي شر مطلق لا خير فيها بتاتا.
ويصرح أرسطو بأن الأقسام الثلاثة الأخيرة لا وجود لها مطلقًا في عالم المخلوقات، وإنما تنقسم المخلوقات إلى قسمين رئيسين:
1. ما هي خير محض لا شر فيها كالملائكة.
2. ومخلوقات في وجودها خير كثير، وشر قليل.
أما الأمور الثلاثة الأخرى فلم تخلق أصلا لأنه ليس في وجودها نفع ولا مصلحة.
من المتسبب الرئيسي في الشر؟
– ولكن العالم مفعم بالظلمات والشر فيه أكبر من الخير، والفساد أكثر من الصلاح، والإنسان ساعٍ بطبيعته نحو الظلم والإهلاك!
– بل العكس هو الصحيح، الشر والظلم والدم في عالمنا كثير فعلا، ولكن من هو المتسبب فيه؟ هل الإنسان –كل إنسان- بطبيعته وبذاته هو من يقوم بهذه الأفاعيل؟ أم أن الفئة التي تدعي أنها تسيطر على العالم الآن وتعتبره ملكا حصريا لها هي من تفعل ما تشاء باعتبارهم آلهة هذا الكون؟
نعم لقد قتلت القنبلة الذرية وشوهت وأصابت مئات الآلاف، ولكن هل البشرية جمعاء هي من فعلت ذلك أم مجرد حفنة من أصحاب النفوذ المجرمين المسيطرين على القرار في أمريكا؟
هل الإنسان بما هو إنسان، هو السبب في قتل ملايين البشر في الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، أم السبب في هذا الإجرام والمذابح هم أصحاب المصالح والمجرمون والطامعون في السيطرة العالم؟!
بل انظر في محيطك، كم من أصدقائك وأقاربك هم من عداد القاتلين والسفاحين والمجرمين؟
كم شخصًا في شارعك من ناهبي الثروات ومنتهكي الحرمات؟!
بل تدبر في أي مشاجرة في الشارع بين اثنين مجهولين، ستجد الغرباء هم من يهبون لفض النزاع، ستجد الإنسانية الحقة هي الساطعة الظاهرة، وتخفت كل النزعات الشريرة التي تعمم على الإنسانية جميعها، بدلا من إلصاق تلك التهم بالشخص المجرم وحده،
لكن المشكلة أن الإنسان يتوه أحيانا إذا ما رأى حجم الدمار أمامه، ويتعجب من حجم الفقر والمشردين في الأرض، لكنه ينتبه عندما يدرك المرء أن أقل من 1% من سكان العالم هم من يسيطرون على 90% من ثروات الأرض، لتبقى الأغلبية في فقر وشقاء وضنك من العيش!
وأخيرا هل يصل الإنسان للكمال ويغلب خيره شره؟
إن الملائكة لم تكن تتخيل ابتداء كيف لعقل الإنسان أن يتغلب على الشهوة الكامنة فيه ويوجهها ويضبطها! ولكن فعلها الإنسان ووصل الأنبياء والأولياء والصالحون لمعرفة واهب الخير والجمال والكمال، تدبّروا فَفقهوا وذاقوا الكمال الحقيقي، فنشروا الخير، ودافعوا عن العدل، ووقفوا مع المظلوم، فكان الحق لهم راية، والعدل لهم غاية، قالوا هذه سبيلنا فاتبعهم طالبي الحق والخير والعدل، وكل على حسب طاقته،
أما الشر الحقيقي فهو اتهام الإنسانية جمعاء ثم الاستسلام لكل ظالم ومتكبر، والركون إلى ركن بعيد! فالأصل في هذه الدنيا التدافع والتزاحم، ولما سكت أهل الحق عن أهل الباطل توهم أهل الباطل أنهم على حق وفسدوا أكثر وضَلّوا وأَضَلّوا،؛ فاختر لنفسك طريقا ولا تكن أنت الطريق الممهد لكل شرير باغٍ محتكر.
اقرأ أيضاً :
الأزمة المادية وإفسادها للإنسانية – لماذا رفض صاحبنا الدعوة ؟
غريب أمركم أيها الماديون!! – كيف يعرف الإنسان نفسه ويدرك سبب وجوده ؟
مبحث القيم في الفلسفة وإشكالاته – كيف ينظر المنهج التجريبي المادي للأخلاق ؟