وهم الرفاهية بخداع الراحة_ كيف نُسرق من دون أن نشعر!
عروض وهمية
سيداتي سادتي: أخيراً بعد طول انتظار، وبعد ما عانت البشرية من تداعيات الكثير من العمل المرهق والشاق، حان الوقت لكي نستريح ونستمتع بالحياة والآن أصبح في استطاعتنا أن نقدم لكم الحل السحري لأغلب صعاب الحياة! من الآن سنأخذك من راحة إلى راحة، ومن مستوى الرفاهية الأدنى إلى مستوى الرفاهية أعلى.
سيتغير أسلوب حياتنا والأعمال التي نقوم بها، وستقل عدد ساعات العمل وتقل مهام العمل؛ فنحن نقدم لك الراحة المنتظرة.
لا تزرع؛ نحن سنزرع لك، لا تربي أولادك؛ نحن سنربيهم لك، لا تبني بيتك؛ نحن نبنيه لك، لا تجهد نفسك في التواصل بين الأقارب والأهل والأصدقاء؛ نحن سنحضرهم لك، لا تختر؛ نحن من سيختر لك، حتى التفكير لا تتعب نفسك فيه؛ نحن سنفكر بالنيابة عنك، كل ما عليك هو الراحة ثم الراحة ثم الراحة!
ونحن نعدك بتقديم كل ما هو جديد في صناعة الرفاهية ، مما يزيد من معدلات الراحة التامة، كل ما عليك فقط هو الدفع مقابل الراحة، ونحن كما وعدناك سنقوم بكل المهام بالنيابة عنك.
سيداتي سادتي: لا تستغربوا هذه العروض؛ فهذا هو واقع الحال الذي وصل إليه بعضنا ممن يملك ثمن الخدمة، ومن لم يملك ثمن الخدمة يسعى جاهدا لأن يمتلك القدرة على الدفع مقابل الراحة الموعودة.
ولكن أيها السادة ممن استطعتم أن تدفعوا! كنتم من الذين يسعون للدفع، فهل وجدتم الراحة الحقيقية حقاً؟ وكيف السبيل للحصول عليها من جهة والمطالبة في نفس الوقت بدفع تكلفتها؟! مما يدفعنا إلى مزيد من العمل والشقاء والجهد.
الخداع الأكبر
وهنا يتضح لكم هذا الخداع الكبير على مستوى تقليل الأعباء وزيادة الرفاهية، والخداع الآخر الذي لا يقل قبحا عن الأول، وهو تقديم نموذج مزيف من السعادة و الرفاهية القائمة على الراحة البدنية، والراحة من المسؤوليات، والراحة من عمل الواجب، والراحة من الاختيار حتى وصل الأمر للدعوة للراحة من التفكير!
يقال في الأثر “في الحركة بركة” ويطالعنا الأطباء يوميا عن أهمية ممارسة الرياضة اليومية، كما يؤكد علماء التربية على دور الأسرة ومسؤوليتها الأولى، خصوصاً تربية الأبناء وبناء جيل واعد واعٍ، كذلك يؤكد علماء الأخلاق على دور العلاقات الاجتماعية بين الناس والأرحام في تكوين شخصية سوية للإنسان باعتباره كائن يسعى ويسعد بالاجتماع.
وأيضا مما لا شك فيه، أن اختيار الإنسان وتفكيره يؤثر حتما على طبيعة حياته، سواء الشخصية أو الأسرية أو الاجتماعية، بل على كل جوانب الحياة.
كيف استطاعوا أن يقنعونا بأن كل ما هو مضر لحياتنا النفسية والبدنية والأخلاقية والاجتماعية هو مفيد لنا؟!
ما بين الماضي والحاضر
يمكن من خلال تتبع نموذج قديم قدم البشرية، أن نفهم ولو بشيء من التفصيل هذه المعضلة التي نعيشها في مجتمعاتنا المعاصرة، فقديماً كان نمط الحياة قائماً على أن تتولى كل أسرة إدارة شأن حياتها من زراعة أو بعض الصناعات البدائية مثل حياكة الملابس وغيرها من الأعمال البسيطة، كما كانت تتحمل عبء بناء مكان للسكن،
وكانت تسعى للحصول على ما ينقصها من خلال شبكة العلاقات بالمحيطين بهم، من خلال المبادلة أو بيع ما عندهم لمن يحتاجه لشراء ما يحتاجون ممن يريدون البيع، مما استدعى وجود علاقات اجتماعية بين الناس قائمة على الأمانة والاحترام المتبادل، وفى نفس الوقت قائمة على العزة والشرف؛ ذلك لأن الجميع يعمل ويكفي نفسه بالحد الأدنى الذي لا يحتاج فيه لأحد، ولكن في نفس الوقت لا مانع من التعاون فيما بيننا وتبادل ما ينقصنا طالما في إطار الاحترام والعزة والعدل.
هذا بعض ما كانت عليه أغلب المجتمعات البشرية قديماً، قبل الاحتكار وانتشار منطق القوة والغلبة واستعباد البشر بعضهم لبعض، لكن برغم ذلك ظل البعض يحافظ على ما يستطيع أن يمارسه بنفسه محافظاً على ما تبقى من اكتفائه الذاتي البسيط من تدبير أمور حياته، وهذا النمط طبعا لن يحقق الربح للمتحكمين بمقاليد الزراعة والصناعة بعد ما انتزعوها من أغلب الناس؛ مما جعلهم يمارسون علينا هذه الخدعة الرهيبة، من أن الرفاهية والسعادة سوف تتحقق عندما تتكفل تلك الشركات بمأكلنا وملبسنا وحتى تربية أبنائنا.
كيف أصبحت الغالبية تسعى لتلك الحالة من الرفاهية؟
ولكن في الحقيقة لقد سلبت منا مصدر قوتنا وسعادتنا الحقيقي، وهو قدرتنا على الاكتفاء بما نحتاج دون الاحتياج لأحد وعدم العمل إلا في الإطار الذي يرسمونه لنا، ووهم السعادة الذي يروجونه لنا، ومارست علينا شتى الوسائل حتى أصبح حلم الغالبية منا هو الوصول لتلك الحالة من الرفاهية ، وحتى يتسنى لنا بلوغ ذلك يجب أن ندفع ولا سبيل لذلك إلا بالرضا بأسر العبودية الجديدة، والعمل في نفس المؤسسات والشركات التي سلبت منا ما كنا نقوم به لأنفسنا، وفي نفس الوقت استعبدتنا لنقوم بنفس الأشياء من زراعة وصناعة، لكن لنظام رأسمالي بشع لا يرغب أن يمتلك إلا كي يبيع!
اقرأ أيضاً:
كيف نرفض ما يحدث في الواقع دون أن ننفصل عنه ؟
المعاناة والألم … هل من سبيل للخلاص من المعاناة ؟ ولماذا نعاني من الأساس ؟