الكومبوند.. يوتوبيا العالم المادي والانفصال عن الواقع
في 2008 صدرت رواية يوتوبيا للكاتب الروائي الراحل أحمد خالد توفيق، وفيها تنبأ توفيق أن العالم سيصير خرابا وأن الناس ستبحث عن الكلاب لكى تأكلها ولن تجدها، لكن الأغنياء معهم الأموال التي ستعطيهم 50 عاما من الأمان وراء أسوار كومبوند في الساحل الشمالي، يحصلون فيه على كل مايحبون ويشبع حاجاتهم المادية حتى المخدرات؟ لكنهم بفعل الملل يحتاجون للخروج من هذا الكومبوند الفاخر لاصطياد أحد الفقراء الذين يتقاتلون على قطعة لحم صغيرة من كلب أو حتى فأر.
في هذا الواقع يريد الجميع أن يكون داخل أسوار يوتوبيا الساحل الشمالي مع هؤلاء الأغنياء -الذين يأكلون ألذ اللحوم، ويشربون أفخرالخمور، وينتشون من المخدرات وقتما يشاؤون، لكنهم لا يعرفون أنهم في وقت ما سيستشعرون الملل ويبحثون عن رجل خارج الأسوار كان في يوم ما أخا لهم يقدمونه قربانا لعل الملل يتركهم لساعات قليلة.
عبر الشاشات السوداء يطل علينا السحرة المتخفون في زى الإعلامي والمذيع والمعلن، ويعرض بضاعته علينا، يصفها بأجمل وأبهى الصور لكنه يخفي خلف تلك الصورة الجميلة أبشع الحقائق المرعبة. في ظل ذلك العالم المادي سوف تتجرد عن إنسانيتك، ستؤذي زميلك في العمل، ستنسى أن لك زوجة وأولادا، ستقتل نفسك في العمل والمهم أن تصل لهذا المنتج الذي صوره لك ذلك الساحر المتخفي وراء ابتسامته الباهتة ويدعوك لترك كل شييء خلفك والتركيز مع هدف حياتك فيلا في كومبوند.
سنوات طوال نجح خلالها الإعلام في ترسيخ الحاجات المادية لدينا وصرنا لا نرى لنا كمالا إلا من خلالها وصرنا بذلك مكبلين بقيود الشهوة والطمع في المزيد، الذي بالطبع لن ينتهي طلبه، ولن تستطيع إشباعه ابدا، فكلما أطفأت شهوة ظهرت لك غيرها وكلما أشبعت حاجة احتجت لغيرها وستصير في تلك الحلقة التي لا ولن تنتهي، حتى وإن حصلت على فيلتك المريحة بالكمبوند المرفه ستسعى لما هو بعدها، ثم أيضا لن تشبع.
وراء أسوار الكومبوند تنقطع كل العلاقات الإنسانية مع الذين هم خارج الكومبوند وتظل النظرة إليهم أنهم مجرد لصوص وقتلة لا ينبغي التعامل معهم، بل وجب الاختباء منهم، فهم إن لم يؤذوهم بدنيا فنظراتهم الحاقدة تؤثر عليه بالسلب وتبدد طاقاتهم في تحصيل الأموال التي يحافظون بها على ماصنعوه داخل مجتمعهم الراقي الذي ليس فيه فقير أو محتاج. لكن هل هناك علاقات بين الناس داخل الكومبوند؟ هل صنعوا يوتوبيا خاصة بهم يحكمها العدل والخير والجمال؟ بالعكس لقد قطع كل شخص فيهم علاقته بالآخر وصنع حول بيته داخل الكومبوند سورا آخر يقطع به كل صلة بينه وبين من هم مثله في مجتمعه الراقي، وصار الكومبوند مجرد أسوار داخل أسوار، سور بين الجار وجاره، وسور بين الزوج وزوجه، وسور بين الآباء وأبنائهم، وبذلك يجدوا أجيالا يظنون أنها لا يجب أن تعيش داخل جدران الكومبوند الراقي، علينا كيوتوبيا العالم المادي أن نلقى بهؤلاء خارج حصوننا التي بنيناها، وبعدما عمروا بنيانا عظيما هدموا إنسانا كان الأولى أن يعمروه هو قبل إعمارهم للمدينة.
“ستة عشر عاما.. وقرون من الخبرات المتراكمة.. مثل أباطرة الرومان قد جربت كل شىء وعرفت كل شىء.. ليس هناك من جديد يثير فضولك أو حماسك فى يوتوبيا.. لا شيىء يتغير.. أحيانا يخيل لي أننا معتقلون وأن الذين بالخارج هم الأحرار” هكذا وصف أحمد خالد توفيق ما تصير الحياة في يوتوبيا العالم المادي يصير الكومبوند سجنا ويصير الناس مسوخا لا يبحثون إلا عن جديد يشبع لهم رغباتهم المادية المريضة ويخرجهم من سجون الملل المحيطة بهم.
العفة والشجاعة والحكمة هم أساس العدل، والعدل هو الذي يجعل التعايش بين الجميع ممكنا، وتتولد الرحمة والوفاء والحياء ويتولد الجمال ويصير العالم كله كمبوند راق بدون أسوار تفرق بين الإنسان وأخيه الإنسان، وقتها يصير الإنسان محققا لكمالاته وساعيا لتحقيق كمالات مجتمعه سائرين معا نحو الكمال المطلق.
اقرأ أيضاً:
الحق سينتصر رغم انتشار الباطل – وسنن التاريخ لا تدعو لليأس
شرنقة التدين وفراشة الإرهاب (1)
خلود جلجامش في عصر العولمة.. لنا في روايات السابقين عبرة