البحث عن السعادة .. هل سيأتي يوم ترى الحياة على حقيقتها؟
موظف مبيعات بسيط في إحدى المؤسسات، يستيقظ كل صباح ليلحق بالقطار ليذهب إلى عمله؛ فيومه يبدأ بالعمل وينتهي ليذهب مباشرة إلى بيته وينزوي في حجرته، يكتب في يومياته حتى المساء ثم ينام وهكذا دواليك… يوم وراء يوم ، وكل يوم يشبه الآخر، في تكرار رتيب لحياة مملة، وفي إحدى الأيام يستيقظ ليجد نفسه قد تحول إلى حشرة كبيرة مقززة، حتى صوته لا يكاد يخرج؛ فهو صوت غير بشري بالمرة، وتبدأ المعاناة في هذا الجسد بعد ما كان يعانيه في جسده البشري، فتبتعد كل الأسرة عنه، وتنظر له باشمئزاز؛ فعلاقتها به كانت علاقة مادية بحته؛ فهو كان العائل لتلك الأسرة، فينزوي في أحد الأركان، ولا يكاد يظهر حتى لا يراه أحد، وينتظر الموت فلا ملجأ له من تلك الحياة إلا الموت، وفعلا يتحقق الموت له في نهاية القصة وتنهي معاناته من الوحدة والانعزال والرتابة.
تلك كانت رائعة الكاتب الألماني فرانز كافكا “المسخ” وهو كاتب ألماني ولد في عام 1883 وتوفي في 1924 بمرض السل، ويعرف هذا النمط من الكتابة بالعبثية التي تنظر إلى الحياة نظرة الاغتراب، وهي نظرة أتت بعد الحداثة، حيت تفشت المادية في ربوع العالم وأصبحت النظرة المادية هي السائدة عن النظرة الأخلاقية الإنسانية، وفي تلك الأحداث يجد المرء ظروفاً مناقضة كلية لرغباته وطموحه، فتتحول الذات البشرية المحملة بالعواطف والمشاعر إلى آلة مبرمجة تكرر كل يوم ما تفعله في رتابة تبعث على الاكتئاب، تلك كانت الرؤية العبثية للحياة؛ فهي حياة بلا معنى، حياة تكتنفها الرتابة والعبثية، ترى أن كل جهود الإنسانية للوصول إلى الحقيقة الكاملة محض وهم، فمن المستحيل في نظرة العبثية الوصول إلى الحقيقة الكاملة، وترى المدرسة العبثية أن التعامل مع تلك العبثية إما بالانتحار أو التعايش معها حتى يأتي الموت.
وللأسف فإن انتشار تلك الفلسفة العبثية كبير في وطننا العربي؛ فالجيل الحالي يشعر بخواء فكري رهيب وفراغ قاتل، وعدم وجود معنى للحياة في ظل تلك الظروف التي تمر بها الأوطان؛ فقد قامت الثورات في الكثير من ربوع الوطن العربي وضحى الكثير من الشباب في سبيل قضية الحرية، لكن كل شيء تقريبا عاد إلى سابق عهده، وفي ظل أزمات طاحنة وفي تكرار رهيب لكل الأيام، فالأيام تمر برتابة فظيعة، فكل يوم يشبه اليوم السابق لا جديد، لا شيء جديد! فالفراغ القاتل يجعل الشباب يعيش أزمة وجودية طاحنة، فلا هدف ولا معنى للحياة، إن كان يعمل فهو يستيقظ صباحا ليلحق بوسيلة مواصلات يكتنفها عدد كبير من البشر، ويصل للعمل نفس الوجوه ونفس العمل، ينتهي الدوام فيذهب لبيته يأكل، يشاهد التلفاز حتى تأتي ساعة النوم فينام ليصحو ليلحق بالمواصلات ليشاهد نفس الوجوه، ليعمل نفس العمل لينتهي الدوام ويعود لمنزله ليشاهد التلفاز ولينام وهكذا دواليك… رتابة وتكرار، وإن كان عاطلا فالمصيبة أكبر وقاتلة، نوم بالنهار وتصفح المواقع بالليل، وقضاء الوقت بأي طريقة لينتهي اليوم ليأتي يوم آخر، يتصفح المواقع يطلب صداقة هذه وصداقة تلك! لا مانع من الكذب لتجميل الصورة وهكذا يكافح يوميا لينتهي اليوم!
فنحن نقتل أنفسنا بوسيلتين بالانتحار لعدم جدوى الحياة أو بالنوم وتصفح الشاشات لقتل اليوم، وانتحار جزئي! كل يوم انتحار جزئي حتى تنتهي الحياة.
الحياة بلا معنى بلا هدف بلا أي رسالة هي انتحار سواء انتحرت فعليا أو تعايشت مع تلك الأيام حتى تنتهي الحياة، الانتحار يا سادة هو خواء، هو عدم شجاعة لأننا نحيا بلا هدف، بلا أي رسالة، حتى ولو كانت الحياة لا تحتمل، وأنا لا أنكر بأن الحياة صعبة، فهي دنيا والدنيا كمؤشر رسم القلب صعوداً وهبوطاً، فإن لم تفعل أي شيء مفيد ولم تكافح واستسلمست، فأنت على مؤشر رسم القلب ميت، لا روح فيك، اعذروني على هذا الكلام، أعلم بأنه قاسٍ، لكن عن تجربة الكلام القاسي الذي يجعل الروح تنهض من قبرها أفضل من الكلام الناعم الذي يجعل الروح في سبات أشبه بالموتى، ابحث عن هدف للحياة، أنت موجود لإعمار الأرض بفكرة، برسالة، بعمل نافع لك ولمجتمعك، انهض من هذا القبر الذي تفوح منه رائحة العبثية واللا مسؤولية واللا حياة، أنت في تلك الحياة لهدف ولرسالة وليس كحشرة سامة في رواية المسخ أنت لست بمسخ، أنت إنسان لك عقل لك روح لك هدف ومعنى في الحياة، كافح في تلك الحياة من أجل أن تترك أثراً طيباً فيقولوا مرّ… وها هو الأثر.
اقرأ أيضاً :
كيف نرفض ما يحدث في الواقع دون أن ننفصل عنه ؟
المعاناة والألم … هل من سبيل للخلاص من المعاناة ؟ ولماذا نعاني من الأساس ؟