سلسلة شرح معضلة الشر (الجزء الثالث) … الإنسان وعلاقته بالنظام التكويني
من هو الإنسان؟
أوضحنا في المقال السابق أن النظام التكويني هو نظام طولي، وطبيعي أن أقل العوالم استيعابا للفيض الإلهي للوجود هو أدنى عالم في النظام الطولي وأبعد عالم عن الذات الإلهية المقدسة، وهو عالم الدنيا، عالم المادة، عالم الأبعاد الثلاثة الذي نعيش فيه الآن. والإنسان موجود في الدنيا/ عالم المادة، يعيش على أرضها المُسطحة وينتمي لها ويتفاعل معها بشقه المادي/ الجسدي، يتلذذ بحصوله على كمالاتها ويتألم من حرمانه منها، ولكن الإنسان أيضا له شق سماوي وهو الروح العاقلة التي تنتمي لعالم أرقى وأكمل من عالم الدنيا، هذا الشق له هو الآخر كمالات يُريد تحصيلها، فيُصبح الإنسان مخلوقًا مُركبًا من شقين، شق مادي لذته في الكمالات الدنيوية وشق معنوي سعادته في الكمالات العقلية.
” لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِين، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ…” فالإنسان إما أن يظل متسافلًا في المادة أو أن يصعد ويرتقي إلى عوالم أقرب وأكرم وأسعد وغامرة بالوجود بنشواته وكمالاته وصفائه من الكدور والآلام.
وهذا مصير الإنسان بعد الموت، فإما الترقي في الوجود أو التسافل، وأيضاً يمكن أن يلمس الإنسان تجليات هذا المصير هنا في الدنيا، فالدنيا بها العرفاء والأولياء وبها أيضاً مختومو القلب والعقل.
الألم من منظور الحب
حتى تكون الشجرة جميلة ومُنظمة وذات شكل بديع يلزم قص فروعها الزائدة وتهذيبها، وإناء معدني قد حمَل أكلة دسمة لن يُصبح صالحاً للاستعمال مرة أخرى إلا بعد غسله بعناية وتفعيص الليف في أحشائه، كيف تسكب شراباً طيباً في كوب ممتلئ بسائل متسخ؟ ستُفْرِغ ما في جوف الكوب ثم تُطهره جيداً، أليس كذلك؟ كيف للأرض أن تزدهر بالزرع دون أن يتحمل ترابها عناء التحول لبذور؟
والإنسان بين عالمين: عالم هو السعادة المحضة الحقيقية -العالم الآخر- وعالم ينتهي ويؤلمنا بحرمانه -عالم الدنيا- والنهل من سعادة السماء يتطلب أن يكون الإنسان سماوياً بالشكل الكافي، والإنسان السماوي هو ذلك المُطهر من الانغماس في وحل المادة، وهذا التطهير يحدث عندما يحل الألم والفقدان في قلب مؤمن راضٍ، قلب قرر في الوقت نفسه أن يرسم لوحته البديعة في السماء ليستمتع بالنظر إليها عندما يذهب إلى العالم الآخر، شخص قرر أن يعزف لحناً وجودياً سيسمعه في نشوة هي أعمق من المجرات كلها، قلب ذكي يبني للمستقبل، ويعلم أيضاً بأنه حتماً سينال رشفة في الدنيا من هذا العصير الأبدي الذي يعدّه في السماء.
الألم من منظور الفلسفة
إن دافع التقدم والإصلاح والتكامل هو الهروب من الألم، بدون الخوف من الشعور بالألم لن يسعى الإنسان للترقي والسمو ولن يرغب في أن يكون أفضل، بمعنى آخر هناك تلازم بين تحمل الألم ونيل السعادة، فهروباً من ألم الجوع نأكل وهروباً من ألم الفشل نجتهد لننجح وهروباً من ألم العزوبية نتزوج وهروباً من ألم سوء المواصلات نشتري سيارة، وهكذا…
” النزاع والشر ليسا خياليين ولا سلبيين، وإنما هما أمران واقعيان ويشكلان سلّماً للخير والتكامل” هيجل
“الحياة كامنة في الموت والمحنة، كما يكمن أكسير الحياة في أعماق الظلمات لأن الضد مخفي في ضده” مولوي
فالسعادة في عالمنا تأتي من الحركة والسعي للهروب من الألم، ورغم ذلك ففي الحركة والسعي إرهاق وألم، ولكن ألم السعي أشرف وأكرم من ألم الخمول ولا نشعر به صافيا بل نشعر بالألم المخلوط بأمل الغد وهو يؤدي في النهاية إلى مسعانا بالسعادة، أما ألم الخمول وعدم السعي فهو قاسٍ لأنه غير مصحوب بأمل وهو مُذل يسلب من الإنسان عزته واتزانه وسلامته وأحلامه وفي النهاية لا يؤدي إلى أي نوع من أنواع السعادة بل إلى تعاسة وعذاب وربما مصير جهنمي في العالم الآخر.
ويمكن أن نلاحظ ذلك في النماذج الحياتية المحيطة بنا ومن تجربتنا الشخصية، لن يحصل الإنسان على أي لذة بدون أن يكابد عناء الألم، لذة النجاح الدراسي تتطلب ألم الاستيقاظ مبكرا لحضور المحاضرات وتتطلب مجهود المذاكرة بضمير، لذة المستوى المعيشي المُرفه تطلب عملاً دؤوباً، لذة “الفورمة” الرياضية وبناء العضلات تطلب تمريناً شاقاً ومستمراً، لذة الأكل الشهي ذو الطعم النفاذ تطلب زيادة في الوزن وربما آلاماً عضوية لأنه عادة يكون دسم، وقِس على ذلك…
لأن طبيعة نيل السعادة في عالم الدنيا المادي هي الحركة والسعي، والحركة والسعي يحدثان بالإرهاق والألم، فالسعادة هنا تولد من رحم الألم.
كثيرا ما سمعنا عن جمل على وزن “الظروف الصعبة صنعت منه رجلاً ماهراً ذكياً” “الظروف الصعبة صنعت منها إنسانة قوية”، إن ظروفاً صعبة تعني ألماً وشروراً، وإن إنساناً ماهراً وذكياً وقوياً هو إنسان يتمتع بمزيد من الكمالات التي لا يتمتع بها مَن لم يمر بظروف صعبة، وإنسان بهذه المواصفات هو إنسان أقرب للسعادة من الإنسان الخامل الذي لا يتحرك ولا يتعاطى مع المشاكل.
إن مع العسر يسراً
إن مع العسر يسراً وليس بعد العسر يسر، لأن اليسر كامن في أعماق العسر والعسر من لوازم حدوث اليسر، هذا هو القانون الذاتي للسعادة على الأرض.
فإذا فرغت فانصب، وألقِ نفسك من جديد في ميدان المعركة والألم، قُم وتحَمْل المسئوليات لتفوز بالتكامل الإنساني والقرب من الذات المقدسة منبع الوجود والكمالات.
أهل الله والهروب من النعمة
يقول علي بن أبي طالب في نهج البلاغة ” ألا وإن الشجرة البرية أصلب عوداً، والروائع الخضرة أرق جلوداً”، بمعنى أن النبات الذي ينبت في الصحراء دون رعاية أقوى من نبات الحدائق الذي يرعاه “الجنايني”
بدون الألم والصعوبات والحركة والتدافع سيرتمي الإنسان في حضن الفساد والراحة وسينغمس في ملذات عالم الدنيا وسيبتعد عن السعادة الحقيقية المتمثلة في التقرب من مصدر الوجود لتنهال عليه المزيد والمزيد من الكمالات، وهذه حقيقة أدركها الكثير من الأولياء الذين خالفوا هواهم بحثاً عن الاستقامة وكانوا يختارون من الاختيارات أصعبهم ويعيشون في الدنيا زاهدين لأنهم يعلمون جيداً خطورة الراحة ويعلمون وجوب السعي والحركة وأهمية الشعور بالضغط، النبي محمد يُحكى عنه أنه كان ينام على الحصير فأرادت إحدى زوجاته أن تهاديه بفرش أقل خشونة، فنام زيادة عن الوقت المعتاد عليه فلم ينم على ذلك الحصير مرة أخرى.
الألم مقدمة للكمال، والزيادة تكمن في النقصان، أو كما نقول “مفيش حلاوة من غير نار”
الألم الحقيقي
إن الألم الحقيقي ليس في الفقدان والنقصان والحرمان في حد ذاتهم فكثيرا هم الذين يفقدون دون أن يتألمون، ولكن الألم يكمن في فقدان ما نحبه ونتعلق به، أما الشيء الخارج عن القلب والتعلق فلن نتألم عند فقدانه، ولذلك فالإنسان العاقل هو الذي يتعلق بالكمالات الثابتة الدائمة الحقيقية ويمنع قلبه عن التعلق بالكمالات المتغيرة الفانية الوهمية.
العروج يتطلب الألم
إن اللطف والعناية الإلهية تقتضي دائما تحقيق الحكمة والمنفعة لمصائر العباد، وكما أوضحنا أن الكمالات الأرقى والأعمق والأدوم خارج نطاق الكمالات الدنيوية، والألم يُطهر قلب الإنسان من التعلق والإنغماس بالكمالات الدنيوية، فالبلاء يُعيد الوعي للنائمين ويُحرك العزائم والإرادات للسير إلى الكمال الحقيقي.
وبالتالي فالبلاء ليس عذاب بل ظاهرة العذاب ولكن باطنه الرحمة، وعندما يُقدّر لنا أن نرى الصورة من زاوية أشمل سنكون شاهدين على هذه الحقيقة وسنتيقن بأن تكاملنا في الوجود لم يكن ليتم إلا بوجود ما نسميه بلاء وألم.
عودة إلى النظام الكُلي
إن النظام الكلي الأصلح اقتضى أن يكون الإنسان مُختاراً في عالم الدنيا، أنت يا عزيزي ووفقاً للمعطيات الدنيوية هل تحب أن تكون مُجبراً أم مُختاراً؟، إن الجبر هنا قيد لن يطيقه الإنسان، والجبر لن يؤدي إلى السعادة؛ فالسعادة هي بنت الحركة والسعي الحُر المُبدع، فالإنسان على الأرض مُختار وهذا أمر اقتضاه النظام الأصلح، والاختيار يتطلب خيارات متعددة مختلفة، ولذلك يوجد خير وشر على الأرض، حتى يستطيع الإنسان أن يختار.
الشر الإنساني ينافي المشيئة الإلهية
الله خلق الأشياء لغاية وبإبداع ولتحقيق منافع، واقتضت حكمته أن يكون الإنسان مُختاراً في عالم الدنيا كما أوضحنا، والاختيار الإنساني أحياناً يكون غير حكيم ويؤدي لشرور، وهذا ليس معناه أن الله خلق شر بل معناه توظيف الإنسان امكانياته بجهل وبعيداً عن المشيئة الإلهية
فمثلاً بشكل كُلي الله خلق النار للحرارة والطاقة والتدفئة، وليس معنى أنها أحرقت بيت س أو جسد ص أن الله خلق شر بل حدث ذلك لأن الفعل الإنساني لم يكن حكيم، فبالنظر إلى العموم وإلى النظام الكلي هل وجود النار في كل العالم مفيد ولازم أم لا؟ وقِس على ذلك مع الكهرباء والرصاص والوقود…
ومن جهة أخرى فإن البلاء الواقع رغم ذلك له دور في تكامل الإنسان كما أسلفنا في الفقرات السابقة.
ختاماً
وبذلك نختم بحثنا في الشر بعد أن تعرضنا له من حيثيات مختلفة ووفقاً للمفاهيم الفلسفية ورؤيتنا للنظام التكويني الأصلح، وإن خرجنا بنتيجة من هذا البحث فهي بالضرورة تنزيه الإله عن العبث والشر لما رأيناه من حكمة وإبداع ورحمة تفيض على الوجود بأكمله. إن المعارف التي طرحناها يجب أن تقود الإنسان إلى استيعاب سبب وجوده على الأرض ومن ثم العمل وفقاً لما يتطلبه هذا الاستيعاب سعياً لمزيد ومزيد من الترقي ونيل الكمالات.
اقرأ أيضا :
سلسلة شرح معضلة الشر (الجزء الأول ): ما هو الشر؟ ولماذا خلقه الله وسمح به؟
سلسلة شرح معضلة الشر (الجزء الثاني) …. عن النظام التكويني
أزمة العدالة والخير و الشر.. ألن نتمتع بعالم خالٍ من الشرور ؟