مقالاتفن وأدب - مقالات

أغلى من الياقوت– كيف تؤثر الأغاني على نفوسنا عند الاستماع إليها؟

هل أنت من مستعمي الأغاني الحزينة؟

مرت على مسامعي إحدى الأغنيات الحزينة التي يبكي فيها المطرب على سوء حاله وفراقه لمحبوبته الوحيدة وكأن العالم انقلب سواداً بعدها، فانتابتني القشعريرة وأخذ خيالي يرسم صورة لهذا المطرب الحزين –وأي أحد يستشعر حالته- جالساً على الأرض في غرفة مظلمة ضيقة تملؤه الحسرة والندم والشعور بالضياع والسقوط.

ولكن عقلي رفض قبول هذه الحالة كما هي، فاستكمل الصورة بباب للغرفة مغلق بمفتاح، والمفتاح ملقى على الأرض بجانب المطرب الحزين، ولكنه هائم على وجهه منشغل بالبكاء والشجن فلم يلتفت إلى وجود المفتاح وظل في غرفته ونكباته المريرة.

هذا ما أستطيع تخيله كلما مرت على أذني أغنية من تلك الأغاني الحزينة التي تعدد مآسي الحياة وتضع الأمل والقدرة على تجاوز أي أمر جانباً، وكأنهم يصابون بعمى يعمي أبصارهم عن وجود مفتاح لباب الغرفة، ناسين أن الأمر يحتاج فقط لالتقاط المفتاح ثم الخروج.

لم كل هذا اليأس والبكاء على الأطلال؟ لم كل هذا الاستهلاك للطاقة والنفسية؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ما هو تأثير الأغاني على نفوسنا وعقولنا؟ وهل هناك أغاني جيدة تنبه السامع على وجود المفتاح بدلاً من أن تحثه فقط على البكاء؟

قوى الإدراك والحركة لدى الإنسان

الإنسان له قوى مدركة، أي قوى يدرك من خلالها الواقع المادي والمعنوي، فهناك إدراك عقلي وإدراك خيالي وإدراك حسي (بالحواس ) وإدراك وهمي.

الإدراك العقلي يتم من خلال العقل النظري ويستطيع فيه الإنسان إدراك كل ما هو “معقول” نظرياً كالمفاهيم والمعاني المجردة غير المحسوسة كإدراكه لمفهوم الحرية ومفهوم الأمانة والحق والعدل والظلم، وهذا النوع من الإدراك سمة فريدة ومميزة للإنسان.

من خلال القوى المدركة يتعرف الإنسان على الواقع المادي والمجرد، أي في نطاق المعرفة فقط وليس في إطار الفعل والسلوك؛ حيث إن الجانب العملي (الحركة) يتعلق بقوى أخرى لدى الإنسان هي القوى الغضبية والشهوية والناطقة.

القوى الغضبية هي القوة المختصة بدفع الضرر عن الإنسان، والقوة الشهوية مختصة بجلب النفع نحو الإنسان، أما القوة الناطقة فهي العقل العملي (الضمير) المختص بترجمة المعرفة النظرية إلى خطوات عملية إجرائية.

أي أن الإنسان “يعرف” من خلال قوى الإدراك، و “يتحرك” من خلال القوى المحركة، وكلما تحكم في قوى إدراكه وجعلها في خدمة العقل النظري السليم، كلما كان أقوى في السيطرة على قواه المحركة والانصياع لضميره الحي.

وكلما كانت المعرفة منضبطة وسليمة كلما ارتقت حركة الإنسان وصحّ ضميره وقاده إلى سعادته الحقيقية وغاية وجوده.

الأغاني جيدة أم لا؟

لن أبحث الأمر من خلال المنظور الديني فلست أهل لذلك الآن، ولكني سأبحث فيه من خلال معايير العقل الكلية ووفقاً لما تم شرحه من خلال قوى الإنسان المختلفة.

الأغاني هى مادة صوتية يدركها الإنسان من خلال حاسة السمع، وتتكون من كلمات وألحان وأوزان. ونظراً لتلك الألحان والأوزان فإنها تحدث تأثيراً في النفس إما بالقبض أو الانبساط.

ونتيجة لهذا التأثير فأحياناً تنقبض النفس أو تنبسط لها دون تمرير للكلمات على العقل الذي هو مختص بفهم الكلمات وتفسيرها والحكم على خطئها من صوابها، وهو ما يحيد بالإنسان غالباً بعيداً عن السواء ويضع نفسه رهينة ضمير مؤلف الأغنية، ويلقي بها في دائرة الصدفة.

 

هل الحل إذاً ألا نستمع إلى أي أغاني؟

بالطبع لا، فليست كل الأغاني سيئة، وهناك العديد من الأغاني التي تحدث في النفس تأثيراً مرغوباً ومحموداً. وأحد تلك الأغاني هي أغنية “أغلى من الياقوت” لأحمد مكي، فهى أغنية تحث على توطيد العلاقة بين الأب والابن من خلال وصف مشاعر الأبوة واستخدام التشبيهات والتمثيلات والأساليب الخطابية والأدعية والنصائح في إطار موسيقي جيد لدعم تلك العلاقة الطيبة بين الأب وابنه.

أغنية كهذه كلماتها جيدة فهي تحث الإنسان على إثارة مشاعر نبيلة وإحداث تأثير الحب والود المحمود في النفس، تساهم في ارتقاء الإنسان وتغليب جانب الخير على الشر وتهيئة النفس لفعل الواجبات التي يقر بصحتها وأهميتها العقل السليم.

فإذاً هي أغنية استقبلها الإنسان بحاسة السمع (إدراك حسي) فتهيأت النفس للتأثر ثم مررها على عقله (إدراك عقلي) فحكم على جودتها من خلال اتفاق كلماتها مع مبادئ العقل السليم فأحدثت تأثيراً محموداً في النفس جعلتها منبسطة ومفعمة بالحماس تجاه العلاقة الطيبة بين الأب وابنه.

الخلاصة

الأغاني نوع من الفن يؤثر في النفس بألحانه وترنيماته الموسيقية، لذلك فإنها تخاطب العاطفة والوجدان أكثر من العقل خاصة إن تم تعطيله.

لذلك وجب الانتباه لكلمات كل أغنية وعرضها على ميزان المنطق والفضيلة لتمييز الجيد منها ونبذ السيئ.

فإن كانت جيدة وتحث على الحق والفضيلة فلا مشكلة عقلية من الاستماع والتأثر بها، بل هي مرغوبة أحياناً، أما إن كانت تحث الإنسان على الخطيئة والتسافل فهي مرفوضة عقلاً.

أما الشخص المكتفي بالاستماع دون تمييز عقلي –كصاحبنا الحزين في بداية المقال- فهو يُعرض نفسه للخطر ويحط من قدر إنسانيته ويُشقي الطريق على نفسه.

اقرأ أيضاً:
” من احلم معايا لـ داري يا قلبي” لماذا لم يحبنا العالم ؟

الكوميديا ودورها في الغزو الثقافي

الفنان المشتبك… كيف يدافع الفن عن قضية؟

 

 

هبة علي

محاضر بمركز بالعقل نبدأ وباحثة في علوم المنطق والفلسفة