مقالاتقضايا وجودية - مقالات

نظرية التطور؛ بين التاريخ والفلسفة .. ثانيًا: البحث الفلسفي (1)

كيف يمكن تناول نظرية التطور من الناحية الفلسفية؟ وبالتحديد من وجهة نظر عقلية منطقية؟

إمكانية التطور:

قلنا إن “نظرية تطور الأحياء” هي نظرية تقول إن الكائنات الحية لم تنشأ بشكلها المعقد الحالي مرة واحدة بل تطورت من موجودات أبسط منها.

فهل هذا ممكن الحدوث؟

نعم، لا يوجد أي مانع عقلي من إمكانية التطور بهذا الشكل، بل كل نظريات نشأة الحياة أو الخلق تتحدث عن فكرة مشابهة، مثل نشأة الحياة من الماء، أو نشأة الإنسان من الطين، وغير ذلك.

فكل النظريات التي تحاول تفسير نشأة الكائنات الحية تقول بنشأة المعقد من البسيط، وهذا مبني أصلا على قاعدة عقلية بديهية، حيث إن وجود المركب يستلزم وجود البسيط الذي يتكون منه أولا، فلكي تبني منزلا تحتاج أولا امتلاك الطوب والإسمنت مثلا، وهكذا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن هذه النظريات وإن اتفقت على أن الأجزاء التي تتكون منها الأحياء المركبة والمعقدة يجب أن تكون موجودة قبل وجود هذه الأحياء، إلا إنها اختلفت فيما هي هذه الأجزاء، وكيف تركبت مع بعضها البعض.

فبعض النظريات يرى أنها نشأت من أجزاء شديدة البساطة مباشرة كالماء والطين، والبعض يرى أنها نشأت من أجزاء أشد اختلاطا وتركيبا وتعقيدا، مثلما رأينا في الطرح التاريخي في المقال السباق.

أيضًا اختلفوا في كيفية تركب الأجزاء مع بعضها، فالبعض يرى أنه تم تركيبها بواسطة الإله مباشرة، والبعض يرى أنها تركبت بواسطة أسباب مادية لا غير.

والاتجاهات العقلانية الإلهية ترى أن الفاعل الأساسي في الكون هو الإله، لكنه -كما هو واضح- يوجد بعض الأشياء عبر سلاسل من الأسباب.

أيضًا ترى الاتجاهات العقلانية أن كل معقد ومركب فأجزاؤه البسيطة يجب أن توجد أولا، فإن كانت الكائنات الحية وجدت من أجزاء شديدة التعقيد والتركيب فهذه الأجزاء بدورها تتركب من أجزاء أبسط إلى أن نصل إلى مواد أبسط بكثير كالطين والماء مثلا، بل حتى الطين والماء يتركبان من أجزاء أبسط، وهكذا.

فلا يوجد من هذا المنظور تعارض بين الطرحين السابقين، إذ إن الكائنات الحية يمكن أن تتطور من أجزاء معقدة نتجت عن أجزاء بسيطة في البداية، كما يمكن أن يوجدها الإله عبر سلسلة من الأسباب.

لكن ما هي الأجزاء التي تطورت منها الكائنات الحية مباشرة؟ هل هي الكائنات الحية الأقل تطورا كما يقول “داروين” كمثال؟ أم الاختلاطات والتفاعلات المادية المركبة والمعقدة الأقل منها مباشرة سواء كانت حية أو غير حية كما يقول “الفارابي”؟ هذا بحث قد يحتاج لمقدمات أخرى، وقد يتطلب أبحاثا تجريبية متعددة، ولا يمكن الجزم بصحة نظرية “داروين” في هذا المضمار ببساطة دون مزيد من البحث، لأن نظرية “داروين” لا تقوم على مشاهدات حسية يقينية مباشرة للتطور نفسه، بل كل ما ترصده هو تشابه الكائنات الحية، وبعض التغيرات الظاهرية في بعض الأنواع التي لا تكفي للقول بتحولها لنوع آخر، وإن تم فعلا تحولها لنوع آخر وتم رصد ذلك فإن الوصول لقاعد عامة يحتاج لرصد هذا التطور في كل الظروف المحتملة ولجميع الأنواع الحية حتى يمكن تعميمه كقاعدة عامة مطلقة.

وجود العلة الأولى:

نظرية التطور بالمعنى السابق الذي تم توضيحه في أول المقال لا تتعارض مع وجود الإله، بل إنها مثل أي نظرية تتحدث عن أسباب مادية تواجه تساؤلا بديهيا عن مصدر هذه الأسباب المادية، من أين جاءت المادة الأولى؟ والحياة الأولى؟

ولأن لكل حادث سبب كما هو معروف بداهة بالعقل، وكما يتفق أهل العلم؛ فإن المادة الأولى تحتاج إلى موجد يوجدها، فنرجع لضرورة وجود الإله حتى يحدث التطور أصلا.

والأدلة الأخرى على وجود الإله كثيرة ومتنوعة.

وجود الغاية:

التصادمات والتفاعلات العشوائية اللانهائية والمستمرة بين المادة وبعضها البعض لا تنتج إلا فوضى، وإن أنتجت نظاما بالصدفة فلا يلبث أن تهدمه بالصدفة أيضا، أما أن ينشأ عنها نظاما معقدا متجانسا وأجسادا ذات أنظمة حيوية غاية في الإتقان والإبداع وأن يستمر هذا النظام ملايين السنين على الأقل؛ فهو دليل على استحالة أن يكون السبب صدفة بحتة.

فمن البديهيات العقلية أن الشيء الذي يتكرر باستمرار دائما أو في أكثر الأحيان يستحيل أن يكون صدفة، بل لا بد من وجود سبب حقيقي ملائم له. فمثلا طلوع الشمس كل يوم لا يمكن أن يكون صدفة، بل هناك سبب معين تفسره قوانين الفيزياء، وإحراق النار للأجسام عند ملامستها لها لا يمكن أن يكون صدفة، بل لا بد أن النار لها خصائص تجعلها حارقة، وهكذا.

وهذه القاعدة العقلية هي من أساسيات التجربة والبحث العلمي، فالتجربة مبنية أساسا على تكرر المشاهدات في ظروف مختلفة فنصل للنتيجة، وبدون هذه القاعدة يصبح تكرر المشاهدات لا قيمة له، ويستحيل الوصول لنتائج أو القيام بالتجارب، ويسقط بناء العلم التجريبي بأكمله.

فاختلاط الأجزاء بهذا النظام البديع لا يمكن أن يحدث صدفة، أي أن موجدها أوجدها لغاية لها، مثل وجود الأجسام الحية المركبة المعقدة الناتجة عنها، وهو يعلم بهذه الغاية ويريدها إذ إن التفاعلات والتغيرات تحركت في اتجاه هذه الغاية، ويقدر على تحقيقها لأنها تحققت بالفعل في الخارج، والفعل الذي له غاية حسنة يسمى بالفعل الحكيم، فموجد هذه الكائنات يوصف فعله بالحكمة لا الصدفة والعشوائية.

هذا عن علاقة نظرية التطور بمسألة الأسباب المادية والإلهية للوجود، لكن ماذا عن علاقتها بالحياة والنفس والعقل البشري؟ لهذا مقال آخر.

اقرأ أيضاً:

نظرية التطور؛ بين التاريخ والفلسفة .. أولًا: البحث التاريخي

نظرية التطور؛ بين التاريخ والفلسفة … ثالثًا: البحث الفلسفي (2)

نظرية التطور ؛ بين التاريخ والفلسفة … رابعًا: البحث الأيديولوجي

هل كل ما نقرؤه في المجلات العلمية صحيح ؟

. بعد نجاح عملية زراعة الرأس، هل يمكننا إعادة الحياة للجسد ؟

شاهد أيضاً:

غسيل الدماغ

أحمد عزت

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا