مقالاتقضايا شبابية - مقالات

سلوك العاشقين: الحب طريق الإنسان إلى الكمال

عندما تحدث أهل الفلسفة عن الحب ماذا قالوا؟

كيف لا تسعفني الكلمات لكي أقول ما أردت قوله، وقد اعتدت أن أكون مفوها؟ لم تعد الحركات كالحركات ولا الكلمات كالكلمات. تهمس الأصوات في الأذن بتمتمات لم أعتاد أن أسمعها، همسات جعلت من القلب الذي لم أكن أنظر إليه إلا كالعضلة القاسية التي تنبض بانتظام نبضة تلو نبضة – فصار مضطربا لا يعرف كيف يضبط إيقاعاته، قد زلزلت قواعده وارتجفت جدرانه وفتحت أبوابه لتكشف عن حقيقته وسره المكنون. كم نختبئ في حياتنا اليومية الرتيبة خلف الكثير والكثير من الغشاوات والأقنعة! لكن يظل ذلك الصغيرالمرهف الذي يسكن قلعة القلب هو أصل وجودنا. نحاول أن نداريه عن الناس إما خوفا عليه أو خجلا منه لأنه مرهف رقيق حالم سارح في عالم الخيال والعاطفة و الحب . فهو المركز التي تتمحور حوله في وجهة نظري كل طباعنا الشخصية الأخرى، فكلها وجدت لتخدمه وتدافع عنه. تحاكى الفلاسفة عن الحب منذ فجر الفلسفة وكانوا به مهوسون، حكى سقراط عنه في صور ما أبدعها ومدحه على أنه مصدر لأعظم النعم. وتغنى به أصحاب الطريقة وأهل السلوك وقالوا عنه أنه غاية الغايات وأن وهجه يشتد كلما اشتد كمال المعشوق.

ومن منا لم يتذوق طعمه ولولفترة وجيزة من حياته؟ ومن منا لم يتألم من لسعاته وأشواكه التي تؤرق العيون المشتاقة للنوم وتحير العقول التواقة للراحة والاستقرار؟ لقد وهبنا هذا العشق للكمال من أكمل الموجودات لكي نتعرف عليه به، فيكون سبيلنا إليه هو لا إلى غيره. ينظر سقراط للنفس أو القلب في محاورتي فايدروس والمأدبة على أنه العربة أو المركبة المجنحة التي يقودها العقل لترتفع به إلى الأعلى في السماوات البهية لتصل بالإنسان إلى أفق الكون، هناك حيث الحقيقة الصافية الغير مكدرة بحجب الدنيا ومدلهماتها. فحينما نرى الواقع لحقيقته وتتجسد أمامنا المعاني الروحانية والعقلانية بحقيقتها لا بصورها، نزداد كمالا بها ونزداد بها أنسا وعشقا لهذا الكمال لدرجة الهوس. نعم، لقد صنف سقراط الحب كنوع من أنواع الهوس، هذا الرجل الجعد العجوز ذو المظهر الخارجي القاسي ولكنه بلا شك يمتلك تحت هذه القشرة البالية روحا متطلعة للحقيقة وقلبا مرهفا بالإحساس، تتحسس ذلك معه في كلماته الرقيقة العذبة وهو ينقلنا في رحلاته ومحاورته الشيقة لعوالم لم نكن نعرف أنها موجودة من الأصل ناهيك عن أن نحلم بالذهاب إليها أيضا.

اتخذت عربات النفس تلك الكثير من المناحي والسبل والدروب لتطفئ نار شغفها وحبها، فمنها من صعد لأعلى لبعض الدرجات واكتفى أو لم تسعفه جناحاته وجياده التي تسوق العربة للسمو أكثر من ذلك. بينما البعض الآخر حلق في موكب الملائكة والفلاسفة والعارفين والصالحين وتعلق بأسرابهم ليتعلم منهم ويتفكر معهم في حقيقة وجوده وفي المعاني العظيمة المستترة وراء حكمة عرافة دلفي الشهيرة “إعرف نفسك”، فلم يتمالكوا أنفسهم أمام حلاوة وعذوبة عسل المعرفة الصافي الذي كلما تناولت منه أكثر أدمنته أكثر فأكثر. فدأبوا على تلك الرحلات العقلية والروحانية التي تعلقهم في السماء بالقرب من معشوقهم الحقيقي.

أما البعض الاخر فلقد اتخذ من الوسيلة غاية، فأخذ ينظر لعربته وجمالها وحسن صنعتها، فأخذ يطوف بها مع رفقائه في الطبقات الدنيا من الحياة، مكتفيا أن يبهر من يرونه ببريق مظهره وجمال طلعته وهو يسوق العربة كأبطال الأساطير الإغريقية القديمة وروايات الإلياذة والأوديسة. فتنجذب له القلوب الرقيقة التي تنبهر بسهولة بالظاهر المبهرج دون أن تكترث ولو دقيقة لتمحيص الباطن المستتر. تتحول معه العربة لوسيلة تبعد الإنسان أكثر فأكثر عن المعاني السامية التي لم يخلق إلا لتحصيلها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كان الجمال معنى من المعاني والسبب الخفي وراء العشق والهوس. فلما تجسدت المعاني على الأرض تجسد الجمال في الزهرة وعبقها وفي الفاكهة وعذب مذاقها، في الماء وهديرها وفي الخيل وصهيلها. ولكنه لم يتجسد بنفس الاتساق والكمال الذي تجسد به في المرأة، فكانت هي أكمل البوابات وأجملها إذا أراد الإنسان أن يقترب من المصاديق المادية بل والروحانية الأشد تعبيرا عن معنى الجمال المطلق. كم تسر أنفس تعيسة شقية تلبدت فوق رؤوسها الغيوم وحملت أكتافه أثقل الهموم حينما يعود الفرد منهم لحبيبته ورفيقته في درب حياته؟

حكت القصص والأساطير عن العاشقين كثيرا، ذلك لأن الحب من أكثر المثيرات للإبداع والخيال عند الإنسان. وربما جسدت البعض من تلك الروايات الحب في صورة العدو وكعب أخيل الذي يسقط بطل القصة في حفرة التسافل. فنسمع عن روميو الذي انتحر أو عطيل الذي دمر حبيبته من الغيرة العمياء، أو عن شمشون ودليلة وغيرهم ممن عماهم عشق المثل عن الترقي لعشق المعنى والمثال. فهذا الكون وهذا الوجود ماهو إلا ساحة تدريب للعقل على انتزاع المفاهيم من أمثلتها وموجوداتها التي تجسدها أو تعبر عنها. ربما تحب ثمار البطيخ الحمراء الشهية ومذاقها الحلو الرطب، والشعور المبهج الذي تشعرك به هذه الثمار وأنت تتناولها، لكن الثمار والفاكهة والأشجار والطيور لم تخلق فقط لتمتعك من أجل المتعة. ولكن لتعرف منها المعنى الذهني للسعادة والنشوة، فتتساءل عن المصادر الحقيقية وراء هذا الشعور، بعدما أيقنت أن السعادة ستتحقق بعشرات عشرات أضعافها إذا ارتقيت في أسباب الوصول لهذا الإحساس من العوارض والظواهر للبواطن والينابيع الحقيقية الدفينة في نفسك.

ما هي أجمل الزهرات التي يمكن أن ترها عينيك؟ في رأيي فإن كل زهور العالم من الزنبق والبنفسج إلى وردات السوسن والقرنفل والأقحوان لن تضاحي في جمالها وبريقها جمال الزوجة الحنونة التي تنتظر بشغف في شرفة منزلها ليعود إليها بطل أسطورتها الخاصة التي لم تطلع عليها أحدا إلا قلبها- فيعود لها ذلك البطل كما يعود السبع المغوار لعرينه بعد أن أشقاه عناء الصيد وتعب العمل ليجد في كنفها الراحة والسكون.

تذبل أشد الزهرات جمالا ونضارة عند التعامل معها بقسوة أو لامبالاة أو حرمان. لا تريد منك الزهرة أن تسقيها من ماء أتى من قمم جبال الألب المتجمدة في فرنسا ولا من ينابيع الماء البارد المنسابة في بطن الصحراء، يكفيها فقط أن تسقيها من الماء المتوفر لديك، فالفعل والاهتمام هو المطلوب لا البهرجة والمناظر. اعتادت المرأة في عصرنا الحديث أن تعيش بين الثنائيات وتحاول جاهدة أن تتاقلم مع هذا الواقع من حولها ولكنها تواجه المعاناة الشديدة في هذا التاقلم لما في ذلك من تعارض شديد مع فطرتها التي خلقت عليها. لا يمكنك أن تتوقع من الزهرة أن تنضج وتتفتح وأن تسقيها الخل بدلا من الماء المحلى بالسكر. نعم ستحاول التأقلم مع الخل قدر الإمكان ولكنها مهما تأقلمت لن تزهر ولن تثمر كما يحدث لها علي طبيعتها وسجيتها العادية والمتوقعة منها.

ولذلك فأتساءل هنا، هل حان الوقت أن ننظر للمرأة من المنظور العاطفي والرومانسي الحقيقي الذي يطابق وجودها وطبيعتها؟ أم هل سنتمر في حبس المرأة في تصورات كونها المجتمع عنها دون نظرة حقيقية وفاحصة لحقيقة الموضوع نفسه، فقيدتها بين الرؤية النسوية “Feminism” المتعصبة، أو النظرة الشرقية “الرجولية” المغرورة المتعجرفة فيما هو أشبه بثنائية تشجيع “الأهلي والزمالك” في مصر وكأن الحياو تحولت لحلبة مصارعة وتناحر بدلا من رحلة عشق وتكامل، أو النظرة الغربية المنحلة المتحررة التي تحول المرأة لمجرد سلعة بخسة تحاول جذب الانتباه إليها بالتسيب الأخلاقي لكي تجذب إليها الذكور في صورة هي أقرب للحيوانية من الإنسانية. بينما كان الأولى أن تكون أفكارنا نابعة من الفطرة السليمة وإنسانيتنا العاقلة وألا نحبس العصفور في هذا القفص السادي ذي القضبان الحديدية القاسية، فكان الأحرى بنا أولا أن نتعلم لغة العصافير لكي نسألها وندعها هي تجيب عن الحياة أو النمط الذي يطابق غريزتها وفطرتها التي فطرت عليها.

انصبت الفلسفة بكامل قوتها وقدرتها التحليلية العميقة الدقيقة على تفسير الموجود بما هو موجود، بالنظر لحقيقة الأشياء ولوازمها العقلية والنفسية والمادية والاجتماعية، لا سيما فيما يخص الإنسان الذي خلق هذا الوجود من أجله ليتكامل فيه بالنحو الذي يحقق له النعيم والسعادة الحقيقية لا الزائفة. ولذلك ربما يكون هذا الكلام الذي تحدثنا به اليوم لا يوفر المخرج أو الحل، بل يعتبر مدخلا للموضوع من باب استثارة العقل والعصف الذهني الذي يحاول هدم أصنام الأفكار الخاطئة عن المرأة و الحب والجمال والمجتمع ليتيح الفرصة لإعادة الطلب والاستكشاف للحقيقة الأصيلة والغاية النبيلة من وراء هذا الوجود وهذه العواطف وهذا الجمال الذي يحيطنا من كل جانب.

أختم هنا بمقتطفة من محاورة فايدروس هي الأقرب لقلبي على الدوام حينما يقول سقراط لفايدروسس بعد أن استعرض معه نظريته عن الحب التي يطلق عليها اليوم “الحب الأفلاطوني” فقال له: “وكذلك ألفنا حديثا خطابيا لم يخل من الإقناع، وغنينا نشيدا أسطوريا يفيض تقوى وتهذيبا للنفس، وتكريما لمن كان مولاك يا فايدروس كما هو مولاي، للحب الذي ينطوي تحت لوائه أجمل المخلوقات!”[1].

[1] د/أميرة حلمي مطر، محاورة فايدروس لأفلاطون أو عن الجمال، دار غريب للنشر، القاهرة، 2000.

اقرأ أيضاً:

لم لا نحاول أن نرتقي بقيمة الحب ؟

الحب في عصر ما بعد الحداثة

كمال الحب في حب الكامل

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.