مقالاتقضايا وجودية - مقالات

سلسلة شرح معضلة الشر (الجزء الثاني) …. عن النظام التكويني

ماذا تعرف عن النظام ؟

أيها الحاجب المقوّس لو كنت مستقيما لكنت أعوجًا

بيت شعر صوفي حضر في ذهني ليقوم بدوره الأدبي في الاستشهاد والبيان والتوضيح، أشياء كثيرة إذا نظرنا لها على أنها مستقلة ومنفردة سيكون لها حكم مختلف عن نظرتنا لها كجزء من نظام، اللون الأسود ربما يكون لون الخوف أو الحزن أو الغم عند كثيرين ولكنه يليق جداً أن يكون لونًا لعين يتغزل فيها الشعراء على مر العصور، في المقابل ماذا لو كانت الأسنان باللون الأسود؟!

انظر إلى لوحة تعشقها، وليكن الموناليزا، في إحدى بقاع اللوحة كان لا بد أن يكون المرسوم مجرد ظلال باهتة سوداء، وفي بقعة أخرى ترى وجهًا أوروبيًا فاتنًا، في اللوحة كان لا بد من اختلاط ألوان وكان لا بد من استبعاد ألوان أخرى وكان لا بد من حاكمية لون على الآخرين، وبدون ذلك لن تكون اللوحة موناليزا، لو رُسِمتْ بشكل واحد وبلون واحد فهي بالتأكيد ستكون عبثًا وليس لوحة فنية مُنظمة.

ما هو تعريف النظام ؟ هو الاختلاف البديع المُرتَب! فلكل عضو من أعضاء النظام إمكانيات مختلفة ومهام مختلفة، وإلا فقد النظام مفهومه أصلاً، لو لم يكن هناك اختلاف وتفاوت في الكون لما كان هناك كون!، فلو استوى الجبل والوادي لن يكون هناك جبل ولا وادي! وكما قال مولانا الرومي”في مصنع الحب كان لا بد من وجود الكفر”

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فهؤلاء الذين يفكرون في كون أفضل وكل شيء فيه متساوٍ ويظنون أن الحكمة الإلهية أولى بها أن تمنع الاختلاف الحادث هم حقيقة لا يفكرون في الوجود وإنما يفكرون في كون مخلوق من مادة بسيطة كالكربون وهذا توهم وليس كونًا!
إن الكون عين وحاجب وأسنان ولسان …، وكل شيء في مكانه جميل ويخدم النظام الكلي.

وبالتالي الرد على السؤال المطروح في المقال السابق، وهو لماذا النقص في النظام الوجودي؟ هو أن النظام يستلزم التفاوت والاختلاف وإلا فلن يوجد نظام أصلاً، والاختلاف يستلزم نقصًا وإلا ففي أي شيء يحدث الاختلاف؟، نظام المستشفى مثلاً يستلزم وجود ممرض أنقص من الطبيب، وطبيب أنقص من رئيس القسم، وهكذا.

الشر يُظهِر الخير

إن النقص والشرور من لوازم النظام وإلا فلا معنى للنظام كما ذكرنا، وهما أيضاً لازمان لإظهار الخير، فماذا لو كان كل الناس طيبين؟ بالتأكيد لم يكن هناك أحد طيبا ولاختفى معنى الطيبة، فلو كان كل الناس أنبياء لأصبحت النبوة بلا معنى ولعجزنا عن تمييزها، لو كان كل الناس أبطال لغاب معنى البطولة من الأرض، فالأبطال يمتازون بكل هذا الحب والتقدير لأنهم قلة قلائل.
إن إدراك معنى الخير لن يتم إلا بإدراك معنى الشر، فإننا ننجذب إلى الخير لأننا رأينا الشر وتألمنا بسببه فنفرنا منه.

كيف للماء أن ينحدر لولا وجود الوديان السفلى؟!

لو كان الكون على شكل واحد لغاب التحرك والمحاولة والحب والحماس والسير والتكامل …

وهذا يأخذنا إلى سؤال آخر، لماذا خلق الإله الموجود  “س” أنقص من الموجود “ص”؟
إن هناك نوعين من النقص: نقص خاضع للنظام وهذا سنتحدث عنه في الفقرة المقبلة، ونقص خاضع للاختيار الإنساني وهذا سنخصص له المقال القادم ولكن سنشير إليه في هذه الفقرة، إن خالد قبيح ليس من أجل إظهار جمال محمد؛ فتفاوت الخيرات والشرور بين البشر لا يحدث بشكل انتقائي ولا بشكل عشوائي، ولكن الإله يعطي كل إنسان على حسب استعداده وسعيه للكمال ومدى استخدامه لعقله ولإرادته الحرة وكيفية التعاطي مع الأسباب، ومن هنا يحدث التدرج في الكمالات بين البشر فتجد أحدهم صادقًا وأحدهم أقل صدقًا، أحدهم وفي وأحدهم أقل وفاءً، أحدهم يمتلك مالًا وأحدهم فقير.

لماذا الإنسان ليس دجاجة والدجاجة ليست إنسانًا؟!
إن الإله الحكيم خلق الموجودات ووضع لكل منها مرتبة داخل النظام بحيث تكون لها دور في استمرار وكمال هذا النظام ، وهذه المرتبة ذاتية في الموجود ولا تنفصل عنه ومُحال أن يُخلَق بمرتبة غيرها -تلك نتيجة لها مقدمات وصاغتها نظريات لا يتسع المجال لذكرها- فلو لم تكن الدجاجة دجاجة لن تكون أي موجود آخر في النظام ، فرقم خمسة على سبيل المثال هو بين الأربعة والستة وتصور انتقال ترتيبه يعني تصور عدم وجوده من الأساس، فمحال أن تكون الخمسة بين الثمانية والعشرة مثلاً، إن القضية تشبه الأشكال الهندسية فالمثلث مجموع زواياه 180 درجة والمربع مجموع زواياه 360 درجة، ولم يتم إيجاد المثلث ثم منحه هذه الخاصية ولا يليق أن نقول أن  المثلث مظلوم، فالمثلث لا يستطيع أن يكون بغير هذه الخاصية، ولو تغيرت فيه هذه الخاصية لانهار لأنه لن يتحمل وجوده كمثلث بأكثر من 180 درجة.

فالإله لا يبخل على المخلوق وإنما يعطيه على قدر استيعابه، وكما قلنا أن هذا الاستيعاب أمر ذاتي في المخلوق ولا يقدر المخلوق على تحمل كمالات أكبر من قدرة استيعابه، لنفترض أننا نمتلك وعاءين سعة كل منهما خمسة لترات وملئنا الأول بقدر الخمسة لترات وملئنا الثاني بقدر لتر واحد، فهذا يعتبر ظلمًا للوعاء الثاني، ولكن لو كان لدينا وعاءان الأول سعته خمسة لترات والثاني سعته ثلاثة مثلاً ونزلنا بهما البحر فامتلأ الوعاءان ولكن كلًّا منهما حسب سعته، فهذا إعطاء على حسب القابل والقدرة والإمكانيات، وهذا ما يفعله الإله مع الموجودات.

والمخلوق نفسه يسعد عندما يحقق كماله ويملأ وعاءه، ولا يشعر بالحرمان والحزن لأن هناك مخلوقًا آخر يمتلك وعاء وقابليات أكبر منه، فالنملة سعيدة بكونها نملة وربما إذا حققت كمالاتها تكون أكثر سعادة من مخلوق يمتلك إمكانيات وقابليات أكبر ولكنه عاجز عن ملئها وتحقيق التكامل، فالطفل مثلاً له كمالات تختلف عن كمالات الشاب، فالشاب مثلاً لا يليق أن ينظر للطفل على كونه مسكينًا لأنه لم يتذوق الحياة الزوجية من قبل، فهذا الطفل لا يمتلك القابليات والإمكانيات التي تجعل منه محرومًا من الحياة الزوجية ولا يشعر بالبؤس والحرمان تجاهها لأنه ببساطة لا يعرفها، وربما قطعة من الشوكولاتة تحقق لديه اللذة التي تعادل لذة الشاب المتزوج.

نظام الخلق هو نظام طولي!

هو  نظام طولي على رأسه الذات الإلهية المقدسة التي أفاضت بالوجود والموجودات، الأمر يشبه الشمس وأشعتها فالنقطة الأخيرة من شعاع الشمس هي الأقل فاعلية وضوء وحرارة من النقاط التي تسبقها.

في المقال القادم سنتحدث إن شاء الله عن علاقة الإنسان بالنظام التكويني، تابعونا…

اقرأ أيضا :
سلسلة شرح معضلة الشر (الجزء الأول ): ما هو الشر؟ ولماذا خلقه الله وسمح به؟

أزمة العدالة والخير و الشر.. ألن نتمتع بعالم خالٍ من الشرور ؟

الشر